شعار قسم مدونات

نحن ندفع لنخسر مرتين!

blogs- search
كما هومعلوم أن البحث العلمي يعتبر أحد أهم عوامل قياس مدى تطور بلد ما، وعادة ما يكون ذلك بقياس عدد الباحثين والأبحاث العلمية أوحجم الميزانية الموكلة لذلك.
 

ولهذا نرى أغلب الدول الكبرى تخصص جزء كبير من ميزانياتها على البحث العلمي والمراكز البحثية كي تبقى دائما في الصدارة كالولايات المتحدة مثلا التي تحتل المرتبة الاولى في الانفاق على البحث العلمي، حيث يقدر إنفاق الولايات المتحدة الأمريكية واليابان والاتحاد الأوروبي على البحث والتطوير بما يقارب 417 بليون دولار، وهوما يتجاوز ثلاثة أرباع إجمالي الإنفاق العالمي بأسره على البحث العلمي.
 

بينما يعتبر الانفاق في الدول العربية ضعيفا نسبيا، فحسب إحصائيات "منظمة التنمية والتعاون الاقتصادي" أن الدول النامية بأكملها لا يتجاوز نسبة انفاقها على البحث العلمي أكثر من 4 بالمائة من الانفاق العام في العالم. وتضيف تقارير ودراسات إلى أن نسبة انفاق الدول العربية على البحث العلمي من اجمالي ناتجها الوطني لا يكاد يتجاوز 0.3 بالمائة، بينما الدول المتطورة فتصرف ما بين 1إلى 3 بالمائة من ناتجها.
 

القطاع الخاص عندنا لا يعود للجامعات و مراكز البحث لتلبية احتياجاتها، بل تتوجه للشركات الأجنبية لتنجز مشاريعها.

لكن بالرغم من ضعف الإنفاق العربي على البحث العلمي، إلا أن هناك جهود تبذل وميزانيات تنفق سواءا على الجامعات بتمويل رسائل الدكتوراة أوالماجستير أوالبعثات إلى خارج البلاد، أوالإنفاق على مراكز البحث بإنشاء مراكز جديدة أوالإنفاق على الباحثين والبحوث العلمية.
 

لكن رغم هذه الجهود، لا نكاد نرى أثرا يذكر لهذه الأبحاث على واقعنا. فما السبب يا ترى؟ يمكن أن يكون السبب راجع لاتساع الهوة بين الجامعات ومراكز الأبحاث من جهة وبين الشركات والمصانع من جهة أخرى، فالمصانع والشركات لها احتياجاتها الخاصة من آلات وتجهيزات وبرامج وتقنيات وغيرها، ومن واجب الأبحاث العلمية أن تلبي هذه الاحتياجات والمتطلبات. لكن هذا لا يحدث إلا نادرا عندنا.

للعلم فإن أكثر من 60 بالمائة من اجمالي الانفاق على الأبحاث العلمية في البلدان المتطورة هومن القطاع الخاص، بينما تمول الدولة ما يقارب 40 بالمائة فقط، بينما هذه النسبة مختلفة تماما في بلادنا، فلا نكاد نجد أبحاث علمية بتمويل القطاع الخاص. أذكر أنني في أخر مؤتمر عالمي حضرته في لشبونة -عاصمة البرتغال-، لاحظت بشكل لافت أن أغلب الأبحاث هي بتمويل من الشركات وليس من الحكومات (Funded by X company)، فالشركات هناك تمول مراكز البحث وفرق البحث في الجامعات مقابل أن يتم توجيه أبحاثها العلمية لصالح تطوير هذه المؤسسات أوأحد منتجاتها. ويمكنكم التأكد من ذلك بأنفسكم بالاطلاع على أي مجلة علمية محترمة كـ ELSEVIER أوIEEE أوغيرها.
 

وبذلك فالقطاع الخاص عندنا لا يعود للجامعات ومراكز البحث لتلبية احتياجاتها، بل تتوجه للشركات الأجنبية (بالذات الأوربية والأمريكية منها) لتنجز مشاريعها أولتبيعها حلولا Solutions بأغلى الأثمان.
 

لعل السبب يعود للانبهار بالغرب، هذا الذي يجعل مسؤولي الشركات يفضلون كل ما يأتي من الغرب ليس إلا أنهم مبهورون بما عندهم وبطريقة كلامهم وربما حتى بشكلهم الأشقر ولباسهم.

لكن لا أعتقد أن هذا هوالسبب الرئيسي وراء ذلك، بل هناك سببا أخر في غاية الأهمية، وهوعدم الثقة في كفاءة العمالة المحلية وأبحاثنا العلمية، فترى أن الشركات ما زالت تفضل دفع مبالغ للشركات الأجنبية عشرات أضعاف ما يمكن أن تدفعه لنظيراتها المحلية مقابل خدمات أوحلول متقاربة في النوعية والكفاءة.


أذكر أنني عملت في يوم من الأيام على مشروع كلف ميزانية الدولة أكثر من 80 مليون دولار، بينما تكلفته الحقيقية لا تكاد تتجاوز الـ 5 ملايين دولار (كحد أقصى)، مع العلم أن الشركة الأجنبية التي نفذت المشروع لم تنفذه بنفسها بل استعانت بشركات محلية وبكفاءات محلية. وعندي أمثلة كثيرة من هذا القبيل، لمشاريع قيمتها الحقيقية لا تتجاوز عشر (10 بالمائة) مما يتم دفعه من قبل شركاتنا.


لكن بالرغم من وجود عجز وضعف في كفاءاتنا العلمية، إلا أننا نمتلك كفاءات محترمة تضاهي وتنافس نظيراتها الأجنبية، بل حتى العديد من أبحاثنا العلمية تنشر في مجلات علمية مرموقة، ولدينا عدد لا بأس به من الأبحاث العلمية والباحثين. فما الذي جعل حتى كفاءة وفعالية أبحاثنا العلمية (المتواضعة) لا تكاد تؤدي دورها المنشود؟
 

إننا نساهم في توسيع الهوة بيننا و بينهم، فمشاكلهم يحلونها ونحن نساعدهم، ومشاكلنا ليس هناك من يجد لها الحلول، فيزداد تخلفنا ويزداد تقدمهم.

بحكم عملي كأستاذ جامعي وباحث في مجال تكنولوجيا المعلومات، ألاحظ أن السبب وراء ذلك هوعدم توجيه الأبحاث العلمية توجيها صحيحا، فالمشكلة في أن أغلبية الأبحاث العلمية في الدول العربية هي محاولة لمحاكاة الأبحاث في الدول المتقدمة، ومحاولة لاختيار مواضيع مطروحة على الساحة العالمية. وهذا شئ يبدوجميلا للوهلة الأولى، باعتبار أنها تعتبر مساهمات ذات قيمة لمجرد قبولها في مجلات عالمية مرموقة وأنها تضاهي الأبحاث العلمية الغربية وتساهم في تطوير البشرية والتقدم بالجنس البشري.
 

فالأبحاث العلمية -في أصلها- هي محاولة لحل مشاكل المجتمع بشكل عام والمؤسسات والشركات بشكل خاص وايجاد حلول لمتطلباتهم Besoins -Needs، كإنقاص استخدام الطاقة، تسريع عملية الإنتاج، تحسين الجودة، تطوير التكنولوجيا، وغيرها -أتحدث عن الجانب التقني بشكل أساسي بحكم تخصصي-، وهذا هوالحال عند الدول المتطورة.


أما عندنا فالأمر مختلف، لأن متطلباتنا واحتياجاتنا مختلفة إلى حد كبير مع احتياجاتهم ومتطلباتهم، وبالتالي إذا كانت أبحاثنا العلمية هي محاولة لمضاهاة ما عندهم واختيار مواضيع البحوث من آخر ما وصل إليه العلم في ذلك المجال، فهذا سيساهم في تلبية متطلباتهم هم وتطوير الغرب وتقدمه.

وبذلك تصبح غالبية أبحاثنا -في حال كانت ذات جودة، فهنا لا نناقش نوعية أبحاثنا- وميزانيتنا تذهب لتطوير وتلبية اجتياجات الغرب وليس احتياجاتنا نحن. لذلك فنحن ندفع مرتين، المرة الأولى: ندفع بميزانية البحث العلمي لتطوير الغرب وتلبية احتياجاتهم بعيدا عن احتياجات مجتمعاتنا، المرة الثانية: ندفع لاستهلاك ما توصل إليه الغرب باستيراد حلولهم التي ساعدناهم فيها بشكل أوبأخر.

إننا باختيار مواضيع بحثنا لحل مشاكل البشرية (الغرب أقصد)، بعيدا عن حل مشاكلنا التي تختلف عن مشاكلهم، فإننا نساهم في توسيع الهوة بيننا وبينهم فمشاكلهم يحلونها هم ونحن نساعدهم في ذلك، ومشاكلنا ليس هناك من يجد لها الحلول، فيزداد تخلفنا ويزداد تقدمهم..


فالبحث العلمي هوفعلا مقياس لقياس تطور أي بلد غربي وليس عربي. أما نحن، فلمعرفة مقدار تطورنا، يجب حساب عدد الأبحاث والباحثين الذين يحاولون حل مشاكلنا نحن وتستجيب لمتطلباتنا نحن، وأعتقد أن هذه النسبة قليلة جدا من إجمالي البحوث العلمية في بلداننا التي هي في أصلها متواضعة. يجب أن ندفع كي نربح، لا أن ندفع لنخسر "مرتين".

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.