شعار قسم مدونات

فزاعة الإرهاب والتطرف ـ تغيير الكُمبارس ـ

blogs - isis
كلما تعالت أعمدة دخان من عملية تفجيرية في بلاد الغرب، قابلها تعالي أصوات في الاتجاه الآخر من بلاد الشرق العربي منددة بهذه العمليات ومتنصلة منها ومن مرتكبيها. بل إن الغالب على بحوث وكتابات المفكرين العرب والمسلمين في الآونة الأخيرة خاصة منذ تفجيرات 11 سبتمبر2001 توجهها في منحى مواجهة ما سمي ويسمى ظاهر الإرهاب والتطرف ، كما نحت معظم هذه الكتابات منحى الدعوة إلى التسامح ونبذ العنف والتطرف.

دعونا بداية نتفق على مسلمة لا يمكن لاثنين أن يختلفا فيها وهي أن ديننا الحنيف قد جعل من كلياته العامة الرحمة والسلام والتعايش بين الخلق أجمعين قال الحق عز وجل : "يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا" ، وجعل من علة بعثة نبي الإسلام صل الله عليه وسلم الرحمة للخلق كافة قال الله تعالى :" وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين".. فبعثة سيدنا محمد صل الله عليه بما هو الرحمة المهداة لم تقتصر على الأمة بل تجاوزتها إلا الإنسانية بل الخلق أجمعين.
ولقد كان المجتمع الإسلامي الأول التجسيد الأكمل والتنزيل الوافي لكل مضامين الدعوة إلى التسامح والتعايش في كتاب الله عز وجل وفي أحاديث النبي صل الله عليه وسلم. وما الوثيقة الأولى التي نظمت علاقة أفراد المجتمع الإسلامي فيما بينهم وفيما بينهم وبين مختلف التكوينات العرقية والدينية والتي سميت ب " دستور المدينة " إلا خير شاهد على نصاعة وصفاء التعايش بين مختلف مكونات المجتمع المدني في صورة مثالية قلّ نظيرها.
عودا إلى البدء في مقاربتنا للقضية من جذورها ظاهرة "الإرهاب والتطرف" على اعتبارها آفة العصر ، ما يهمنا ليس بالدرجة الأولى الوقوف على أسباب الظاهرة بقدر ما يهمنا موفق النخب المثقفة العربية منها . كلما وقع تفجير في منطقة من مناطق العالم إلا وتصدر المشهد الإعلامي وجوه الفكر العربي منددين ومستنكرين لما يقع وتنظم الندوات المؤتمرات في مناقشة الآفة ونصبح من حيث شعرنا أو لم نشعر في موقف المتهم الذي يصر ـ رغم براءته ـ على أن ينسب التهمة لنفسه بنفسه فيدبج المرافعات ويتفنن في الردود ويرد اللائمة لأبناء أمته ويرميهم بما هم منه براء.

بعد ثورات الربيع العربي، لم يعد لتنظيم القاعدة وجود، واستعيض عنها بكومبارس جديد يسمى تنظيم الدولة الإسلامية.

أرجع لأتحدث عن مسلسل العمليات التفجيرية التي هزت العالم وسياقاتها وأبدأ بتفجيرات نيويورك في 2001 وما عرفته المنظومة الدولية من أحداث وتغيرات سياسية واقتصادية وفكرية تلت الحدث ، حتى إنه ليتبادر للعقل الراجح أن هذه التداعيات كانت مقصودة لذاتها وأن الوصول إليها احتاج حدثا كحدث تفجير برجي التجارة العالمية بتلك الدقة وبذلك الحشد الإعلامي. سياق التفجيرات كان متسما أيضا باندلاع انتفاضة الأقصى المباركة صيف 2000 وما واكبها من صحوة على احتشامها إلا أنها عبرت عن يقظة باقية في الوجدان العربي المسلم ترفض كل مس بمقدسات الأمة ومقدراتها.

والتفجيرات أعطت ـ من بين ما أعطت ـ الضوء الأخضر لحملة استعمارية لا زالت الأمة تتجرع مرارتها إلى اليوم في العراق وفي أفغنستان وفي مناطق أخرى وبطرق مختلفة واليافطة المرفوعة في هذه الحملة ( محاربة التطرف والإرهاب) والفزاعة التي رفعت في وجه الشعوب العربية بعوامها ونخبها هي فزاعة تنظيم القاعدة وسخرت كل الوسائل حتى في مجال الفن السينما لإقناع الكل بأن الإرهاب نشأ وينشأ في بيئة إسلامية ويتخذ من الدين مرجعية فكرية له. وانبرى مفكرونا العرب وبأقلام مرتجفة لدفع تهمة لم يلصقنا بالأمة غيرهم وتنافسوا في من يخطب ود الغرب بعبارات الدعوة للسلم التعايش.
تمر السنوات وتنهض الشعوب العربية ثائرة غاضبة على ما آلت إليه أوضاع الأمة من تردي واستغلال من طرف أنظمة لم تخترها هذه الشعوب ولا تعبر عنها ، تساقطت رؤوس أنظمة لطالما رفعت هي الأخرى فزاعة محاربة الإرهاب لضرب كل صوت تحرري داخلي.
نجح الربيع العربي إلى حد كبير في تحقيق أهدافه لكن سرعان ما جرى الانقلاب على مكتسباته وبنفس الطريقة والأسلوب لكن هذه المرة لم يعد للقاعدة وجود واستعيض عنها ب " كومبارس" جديد اسمه تنظيم الدولة الإسلامية ويعرف اختصارا ب "داعش".. والناظر في ظهور هذا التنظيم وتطوره وانتشاره يلمس القدرات الهائلة التي يتوفر عليها إن على مستوى قوة الاستقطاب والتجنيد وإن على مستوى القدرات العسكرية واللوجيستية، بل وحتى على المستوى الإعلام مما يطرح العديد من الأسئلة عن الجهة أو الجهات الداعمة للتنظيم وعن المرحلة التي ظهر معها التنظيم والتي تزامنت مع هبة الشعوب العربية لاسترداد الحق في الحرية والكرامة.
الإشكال المطروح والغير المفهوم هو في طبيعة تشخيص المفكر العربي الإسلامي للظاهرة ، فالغالب الأعم هو التسليم بكون التنظيم حقيقة واقعة وأن التنظيم يغرف ويكون مرجعيته من " التراث الإسلامي " الذي يشكل حسب زعمهم البيئة الخصبة لتكون وانتشار مثل هذه الأفكار، والمفكر النخبوي العربي بتبنيه هذه المواقف والتنظير لها يكون متناغما تمام التناغم مع الطروحات والأهداف الكبرى لصانعي الإرهاب والتطرف في العالم.

ظاهرة التنظيمات الإرهابية صنعتها قوى عالمية، تجتمع على ضرب التجربة الإسلامية، والحيلولة دون قيادتها للجماهير والوصول إلى الحكم.

في المقابل تغاضي تام عما يمارس في حق شعوب العالم العربي الإسلامي من إرهاب وترويع ممنهج ومنظم تقوده مؤسسات سياسية رسمية وبدعم غربي لا غبار عليه يصمت المفكر " المداهن" عن هتك الأعراض وقتل الأبرياء واعتقال الأحرار في مصر وسوريا والسعودية والمغرب ويسكن المفكر " المنفتح " عن إرهاب الدولة الذي يمارسه الكيان الصهيوني في حق الشعب الفلسطيني الأعزل وفي حق مقدسات الأمة وفي مقدمتها المسجد الأقصى.

كخلاصات يمكن القول باستحالة إنكار وجود نزعات متطرفة داخل الجسم الفكري الإسلامي وهذا موجود داخل كل نسق فكري مهما تعددت مشاربه وتنوعت مرجعياته ، وفرضا زعمنا أن ظاهرة الإرهاب هي حقيقة وليست مصطنعة فالسبب الرئيسي لها هو المتضرر منها ـ أقصد الغرب ـ بدعمه لأنظمة استبدادية جثمت على الصدور وصادرت الحقوق والحريات واستأثرت بالثروات والمقدرات فطبيعي جدا أن تكون ردة الفعل إرهاب وتطرف إن ذهبنا في اتجاه تفنيد المؤامرة. لكن عندي أن ظاهرة التنظيمات الإرهابية هي ظاهرة صنعتها قوى عالمية مختلفة تجتمع في جملة أهداف منها ضرب التجربة الإسلامية والحيلولة دون قيادتها للجماهير والوصول إلى الحكم ، والتمكين للأنظمة الاستبدادية وبالتالي بسط يديها لمزيد من خنق الحريات تحت شعار محاربة الإرهاب والتطرف.
خلاصة مهمة مفادها أن قلم المفكر العربي والإسلامي ليس في ملكه بل هو ملك أجندات خارجية تملي عليه ما يكتب وما يتبنى من أفكار ويضل بذلك بعيدا كل البعد عن قضايا الأمة وهمومها.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.