شعار قسم مدونات

عن المسألة السياسية

blogs - islamic
(العالِم ليس هو الشخص الذي يعطي الأجوبة الصحيحة، وإنما هو الذي يسأل الأسئلة الصحيحة)
كلود ليفي ستراوس.

سؤال (ما الحل؟) هو سؤال الإصلاح الرئيس الذي طالما اشتغل به المفكرون المسلمون منذ ما يزيد عن القرن، أما سؤال (ما المشكلة؟) فهو أقلّ حظًا من تناوله في الأدبيات المعاصرة، وبشكل عام فإن أغلب الأطروحات الإصلاحية اليوم تدور في فلك أربعة مقاربات أساسية: المقاربة العقدية التي تدعو إلى محاربة التغريب وتصحيح عقائد المسلمين كونها نقطة الانطلاق لتحرير الأمة من العبودية لغير الله، والمقاربة الصوفية التي تدعو إلى اعتزال السياسة والرضا بالنظم القائمة، والمقاربة السياسية التي تعتبر النظم ما بعد الاستعمارية أصل الأزمة، ومؤخرًا: المقاربة الفردانية التي تعتمد على خطاب حداثي يعظم النجاح الشخصي بعيدًا عن السرديات الأيدولوجية الكبرى (وهو ما شرحه باتريك هايني في كتابه المهم (إسلام السوق))، ويختلف الإسلاميون في مدى تبنيهم لكل مقاربة على حدة.

لا ينبغي لأحدنا أن يقف عند نقطة محددة أو نموذج تفسيري معيّن ثم يدّعي البناء على أساسه فحسب مع إهمال بقية المراحل والتطورات اللاحقة عليه.

والرأي الذي نعتقده: أن المشكلة متعددة الأبعاد بالتأكيد، لكن حلًها لن يكون أبدًا عبر تبني رؤية ذات خط أحاديّ الوجهة، ففكرة الحل النهائي الشامل –كما تقول د/ هبة رؤوف عزت في كتابها (نحو عمران جديد)- هي فكرة طوبوية لم تتحقق أبدًا في التاريخ، إذ لم يكن هناك أمة حصلت نهضتها بخريطة طريق معلومة ومحددة سلفًا.

نقول: نعم الأزمة متعددة الأبعاد، لكن المسألة السياسية هي جوهر الأزمة، وليس منطقيًا أن نبحث عن أية حلّ يستبعد "السياسي" من معادلة التغيير أو يهمّشه، ففي سياق تاريخي –كما يشرح د/ رفيق حبيب في كتابه (الدولتان)- تغوّلت فيه الدولة الحديثة على فضاءات الحركة والمجالات الخاصة والعامة وكافة شئون الاجتماع البشر، حتى أفقدت المجتمع استقلاليته وصادرت مرجعيته ..

في هذا السياق تصبح أسئلة كسؤال الدّولة أو سؤال الأمّة أو سؤال التحرّر من ربقة النظام الدولي، هي أهم الأسئلة التي ينبغي على المهتمين بالإصلاح أن ينشغلوا بها، ويتجادلوا حولها، وتُعقد في سبيلها الجلسات واللقاءات، وما لم تنعكس الدروس العقدية أو النجاحات الشخصية أو غير ذلك على المسألة السياسية، فإن ذلك الجهد وإن كان له أثرٌ محمود، إلا أنه سيظل –بالنهاية- أثرًا هامشيًا بالنسبة لواقع الأمة.

ولعل نظرة بسيطة إلى غالب الأدبيات المعاصرة للمسألة السياسية تكشف أن رؤى الإصلاح ونظريات التغيير "الإسلامية" تنحصر معظمها في التوفيق بين التصور التوحيدي والنموذج السياسي القائم بالفعل، وهذا عجز بيّن يوضح مدى الفقر المنهجي الشديد للإسلاميين في تناولهم للمسألة السياسية.

أما أنماط التدين التي تتبنى سرديات "علمية" للدين مجرّدة من مفاهيم التحرّر والنضال والمقاومة، فإنها –في أفضل الأحوال- تولّد طبقات من التكنوقراطيين الذين لا ينشغلون سوى بمسائلهم العلمية وقضاياهم التقنية، وهذه الطبقة من الناس وإن كانت ضرورية لتحقيق الإصلاح، إلا أنها تظل بالنهاية عاملًا مساعدًا وليس فاعلًا رئيسًا في حركة التاريخ، وأبرز دليل على ذلك هو التاريخ ذاته إذ أن طبقات التكنوقراطيين دائمًا ما تُستجلب من قبل الأنظمة السياسية الحاكمة -بغض النظر عن المنظومات القيمية الحاكمة لهذه الأنظمة- لتوظفها في إدارة شئون الدولة، فيساهم التكنوقراط في تحرير المسائل الشرعية أو إنجاز التقدم العلمي أو غير ذلك، أما الثورات والتحوّلات السياسية والاجتماعية الكبرى فهي سابقة على نشوء هذه الطبقة، التي يتم توظيفها كتدبير لاحق لمعالجة المسألة السياسية.

وأنا لا أدعو إلى عدم الاشتغال العلمي الصرف أو إلى إهمال تحقيق الذات الطبع، ولكن أدعو إلى تقدير الأمور بقدرها، وإلى طرح الأسئلة الصحيحة قبل طرح الإجابات.

ومنطق التفكير الذي يلزم عرض حلّ شامل ذي خطٍ تصاعديّ للمسألة السياسية هو منطق غلط، فعملية التغيير عملية تراكمية تحتاج إلى عشرات السنوات لتحقيق فاعليتها، وطبيعتها أنها تنضج ببطء، وتتفاعل خلالها مكوّنات اجتماعية وسياسية كثيرة جدًا، فتطور الوعي السياسي والاستراتيجي لا يحدث بين يوم وليلة وإنما هو نتاج تفاعلات اجتماعية وأحداث تاريخية وتجارب تقوم وتفشل ..

والمهم: أن يستمر التفاعل "الحلزوني" –بتعبير عبد الوهاب المسيري رحمه الله- بين النموذج والواقع، بين ما ينبغي أن يكون وما هو كائن، وهذا يتطلب أن يكون أفقنا دائمًا متجاوزًا للواقع، وأن نبني النماذج والخرائط الإدراكية لتحليل الواقع وتغييره، ثم تتفاعل هذه النماذج مع الواقع ليتم تقويمها والتعديل عليها، أما التوقف عن البناء والاستسلام لما هو كائن فليس من سمت العقلاء فضلًا عن المسلمين العاملين لدينهم.

فكرة التراكمية أيضًا تلزمها فكرة المرحلية، أي أن ثمة مراحل تمضي وأخرى تبدأ خلال سيرورة عملية التغيير، فلا ينبغي لأحدنا أن يقف عند نقطة محددة أو نموذج تفسيري معيّن ثم يدّعي البناء على أساسه فحسب مع إهمال بقية المراحل والتطورات اللاحقة عليه (أحيل هنا -كمثال- إلى مقال عبد الرحمن أبو ذكري: ما بعد رابعة).

انشغلوا بالأسئلة، خصوصًا تلك المتعلقة بالمسألة السياسية، ولا تنشغلوا بـ "اليومي"، لأننا إذا لم ننشغل بالأسئلة الآن، فإن الفرصة المزعومة ستضيع كما ضاع غيرها.

أما الطرح الذي يؤمن بانتظار "الفرصة" التاريخية، فإن هذا طرحٌ غريبٌ بالفعل، فإننا حتى لو سلّمنا بإمكانية قدوم هذه الفرصة (رغم أن الاتّكال على الأقدار المحضة هو عمل من جنس الدروشة السياسية) فإن البحث والإعداد لاستقبال هذه الفرصة أمرٌ مطلوب، لا على المستوى التقني فحسب وإنما على مستوى التخطيط الاستراتيجي والاستشراف المستقبلي أيضًا، وهو ما لا نجده عند المؤمنين بهذا الطرح..

إشكالية أخرى تواجه هذا الطرح وهو أنه يجهل ماهية هذه الفرصة بالأساس، وإلا فليسأل أحدنا: ما المقصود بهذه الفرصة ؟ وما طبيعتها ؟ وما النماذج التفسيرية التي يمكن إدراك الفرصة من خلالها ؟ وكيف نعدّ لها ؟ وكيف ندفّع الحركات الاجتماعية والأوضاع السياسية نحوها ؟ وهل من مصلحتنا تأخرها أم تقدمها ؟ وما هي أبعادها التي يمكن التغيير من خلالها ؟ الحقيقة أن كل هذه الأسئلة تظل بلا إجابات، لأنها غير مطروحة بالأساس.

لذا فإن الفكرة التي نشجع عليها دومًا: أن انشغلوا بالأسئلة، خصوصًا تلك المتعلقة بالمسألة السياسية، ولا تنشغلوا بـ "اليومي"، لأننا إذا لم ننشغل بالأسئلة الآن، فإن الفرصة المزعومة ستضيع كما ضاع غيرها، وستتكرر مأساة رابعة كما تكررت مأساة العراق والجزائر وحماة وغيرهم من قبلنا، ويعبّر عبد الله عزام رحمه الله عن أحد تلك الفرص الضائعة فيقول: (زادت آلامنا ولوعتنا أننا ما استغللنا هذه الفرصة في بناء أنفسنا وفي أخذ أكبر قسط من المعلومات منها، صرنا نعضّ أصابع الندم، آه لو عملنا كذا، آه لو عملنا كذا، انتهى كل شيء وعاد الرجل كالنساء وعلى الغانيات جرّ الذيول).

ونختم في النهاية بالمقولة التي بدأنا بها كلماتنا لكلود ستراوس: «العالِم ليس هو الشخص الذي يعطي الأجوبة الصحيحة، وإنما هو الذي يسأل الأسئلة الصحيحة».
والله أعلم.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.