شعار قسم مدونات

خرج و لن يعود!

A Palestinian boy stands in front of a wall with Arabic graffiti that says 'we will return', as Palestinians mark the 68th anniversary of Nakba in Fawwar refugee camp south of the West Bank city of Hebron, 15 May 2016. 'Nakba,' or 'catastrophe, refers to the creation of the state of Israel in 1948 and the subsequent expulsion and displacement of Palestinians from their land. Palestinians keep old fashioned keys as a symbol of the homes they left behind and one day

لستين عاما حتى الآن، فُرض علينا أن نمر كل يوم من ذات المكان الذي قتلوا فيه طفلنا أمام باب منزلنا. لم يتجاوز "مرعي" الثانية عشر من عمره عندما قامت إسرائيل بالهجوم على قطاع غزة لأول مرة منذ إنشائها (إسرائيل) بعد حرب 1948، فيما عرف بالعدوان الثلاثي (حرب 1956).
 

أخبر والدته ذات صباح أنه يشتهي أكل طبق من "المجدرة" فردت عليه بتأجيلها لإعداده، بسبب مشاغلها الحالية، فانصرف الطفل للعب في انتظار الموعد. كان يلهو بحمامة صغيرة، طارت من بين يديه إلى خارج المنزل، انطلق ببراءة لإحضارها، فسبقته رصاصة قناص من جيش الاحتلال واستقرت في جسده.
 

يعلم كثير من الناس أن والدي سافر بعد عام 1967 لاستكمال دراسته في الأردن، لكنّ قليلين من يعرفون أن والدته أقنعته بالسفر إلى الأردن للدراسة، لأنها كانت تخشى أن يقتل مثل شقيقه في أي ظرف بعد أن عادوا بحرب جديدة واحتلوا الأرض، فآثرت أن يبتعد عنها لسنوات، بدل التفكير في أنه يمكن أن يبتعد عنها للأبد.
 

لاحقا أصبحوا يقتحمون البيوت باستمرار، بحثا عن الأطفال والفتيان الذين يلقون عليهم الحجارة، أضحى القاتل يمر أيضا بمكان جريمته.

ظلت تمر كل يوم بذات المكان الذي قتل فيه ابنها، فالدخول والخروج من المنزل يستلزم ذلك. بعد عودتهم بالحرب بعد أحد عشر عاما من جريمتهم الأولى، أصبحت ترى قاتلي ابنها في الشوارع كل يوم صباحاً ومساءً. لاحقا أصبحوا يقتحمون البيوت باستمرار بحثا عن الأطفال والفتيان الذين يلقون عليهم الحجارة. أضحى القاتل يمر أيضا بمكان جريمته ويقتحم بيت الضحية على مرأى من أهله.

طيلة الخمسين عاما التي تلت الجريمة وحتى وفاتها، حرّمت الأم على نفسها إعداد وأكل "المجدرة" التي اشتهاها طفلها وقتل قبل تناولها. لقد أجلت إعدادها للأبد. رأيتها مرة واحدة في حياتي قبل وفاتها بعام تأكلها خارج منزلها. نسيت! أنساها الزهايمر وليس الزمن.
 

في أيامها الأخيرة كانت تردد اسم مرعي كثيرا، لكنها لا تعرف من هو ولماذا تردد اسمه. كان الألم أقوى من الزهايمر بكثير. بعد عامين من وفاتها أصبحت أطهو "المجدرة" في ذات المنزل الذي حرّمت عليه لخمسة عقود، أريد أن يتذكره الجميع دائما، فلا صور ولا أوراق ولا أغراض باقية من أثره. مرور الوقت يبعد الحدث لكنه لا يزيل الألم. لن تستطيع أن تنسى أن الطفل كان يعيش في هذا البيت و أنه قتل فيه. كل شيء ينطق بما حدث إلا الضمير.


أدرك أن كل طفل يقتل بأسلحة جيوش الاحتلال في أي مكان على الأرض، هو عمّي، هو أنا، هو الناس جميعهم.

بعد قيام السلطة الوطنية الفلسطينية عام 1994 لم يعد حينا من الأحياء التي يجتاحوها ويقتحمون بيوتها ويسيرون بين شوارعها في الأحداث والظروف المختلفة. لكني كلما سمعت صوت هدير طائراتهم الحربية وأصوات قصفهم أرى طفلا يقتل في ذات المكان -الذي حلق فيه طائره-  فوق أرض استبيحت فيها حياة البشر قبل الشجر والحجر.
 

ينفتح الجرح ويتجدد الألم كلما خرجت من البيت أو عدت إليه، وأدرك أنني من قتل في هذا المكان قبل أن يخلق، فقد كان من الممكن أن يكون والدي هو الطفل الذي خرج حينها من هذا المنزل، لكن عمي هو من خرج وتلقى الرصاص.
 

أدرك أن كل طفل يقتل بأسلحة جيوش الاحتلال في أي مكان على الأرض هو عمّي، هو أنا، هو الناس جميعهم. كل يوم أمام الباب في ذات المكان.. الله يرحمك يا عمي.. الله يرحمك يا شهيد.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.