شعار قسم مدونات

أنا ربكم الأعلى.. ولكن!

blogs-أمريكا
هناك فرق بين من يطلب من الناس عبادته فيطيعوه، وبين من يتم إرغامهم علي ذلك، ثم لا يجدون من مفر عن عبادته سبيلا، وكما ندرك فإن كلا الحالتين شبه عاديتين تماما، ولا يوجد في أمرهما إثارة كافية. فقد وثق التاريخ الإنساني حالات عبادة من بعض البشر إلى بعضهم الآخر، وليس الأمر يتعلق بالنمرود كما وردت قصته فيما نقل عن بني إسرائيل، أو ورد في نصوص القرآن، وليس الأمر يتعلق بفرعون الذي قال للناس أنا ربكم الأعلى.


ولكن الأمر يتعلق بالذي قال له الناس "أنت ربنا الأعلى ولا نرضى عن عبادتك بشرٌ غيرك"، وسرعان ما فرك هذا البشري يده غبطةً ونعمةً على ما ساقته إليه الأقدار، وتمنى أنه يستطيع زراعة العالم كله برسيماً. (والبرسيم نبتة في مصر تقدم طعاما للبهائم، واشتهرت الحمير بحب البرسيم).
 

استخدمت قوى الغرب وأمريكا كل الإمكانيات وسخرت كل الطاقات وأنفقت المليارات من أجل صناعة ما يشبه الفرعون الجديد الذى سيكون خادما أمينا وحاميا لمصالحهم

نعم يا سادة، لقد قال الناس لهذا البشري "أنت ربنا الأعلى وما من إله غيرك"، وبما أن زماننا هذا هو زمن المعجزات التي يتم صناعتها في مختبرات أمريكا الشمالية، وأجزاء أخرى، ومناطق أفعوانية من العالم، فإنه حينما أرادت أمريكا صناعة نظام عميل لها في العراق، قامت باحتلاله لتتركه غريقا في براثن الاقتتال الداخلي، وسابحا في بحر الفتن الطائفية، التي لم تهدأ يوما منذ الغزو، وحينما انسحبت كانت قد رسخت دعائم نظام جديد يخدم مصالحها على حساب شعبه، وهكذا الأمر في أفغانستان، التي لا زال شعبها يعانى من آثار الاحتلال وما خلفه ورائه من مصائب على شعب فقير ومسكين.
 

الأمر يختلف كليا في باقي منطقة الشرق الأوسط، والدول العربية التي تعانى من عدم استقرار في الوقت الحالي، وعلى رأسهم الدولة التي قدم "معظم" شعبها ومازال يقدم للعالم نماذج فريدة من نوعها، وابتكارات نوعية في مجالات الخنوع للبيادة، وجعل الحكام آلهةً تستحق العبادة من دون الله. وبما أن مختبرات أمريكا الشمالية هي التي تنتج وتحلل وتقرر مصير الشعوب الآمنة في العالم، فلم يكن يجب عليها أن تحتل أي دولة من دول هذا الربيع المزعوم، لتحقق أيديولوجياتها بما يخدم قوتها المتآكلة، التي تعصف بها الأزمات الاقتصادية من حين لآخر، وبما يخدم مصلحة إسرائيل حليفها الاستراتيجي، الذى لا سبيل للاستغناء عنه في المنطقة.

 

فما نسميه ربيعا عربيا، لم يكن ليخلو من مجرد وجود أنظمة عربية تعانى من العجز والشيخوخة، في ظل تصاعد وتيرة الفقر والجوع والاضطهاد والقمع بين تلك الشعوب، ولم يكن هناك سبيل إلا بتغيير تلك الأنظمة البائسة، والبحث عن دماء جديدة تقود مسيرة العمالة للغرب، ليحدث اتزان في المعادلة ما بين القوى الصاعدة في منطقة الشرق الأقصى، وما بين قوة أمريكا وحلفائها وتأثيرهم في المنطقة الشرق أوسطية بشكل كامل.
 

ومن هنا كان الصراع الأكبر، الذى عانت ويلاته معظم شعوب المنطقة، وما يضحك في الأمر أن الخطة برمتها لم تكن تستهدف سوى صناعة أنظمة عميلة بأيدي تلك الشعوب أنفسها، والتي كانت تعانى في كل الحالات، حيث لم تكن الخطوة التي تستهدفها المنظومة الامبريالية، سوى جعل كل شعب يهتف لحاكمه قائلا "أنت ربنا الأعلى" ليس هذا فحسب، بل الرقص والزمر والتطبيل، ومؤخرا زفات ووفود متنقلة.
 

لا مانع من أن ينهار اقتصاد دولة بالكامل من أجل تحقيق مآرب أخرى تريدها القوى التي تعيش على دماء الشعوب وتحقق حرياتها بعبودية الآخرين.

ولا يحسبن أحدٌ أنني أتحدث عن حاكم بعينه، ولكن الأمر ينطبق على كافة هذه الشعوب التي على رأسها مصر، التي أيقنت أمريكا وحلفاؤها، أن نظام الإسلاميين فيها سيكون عصيا على التسييس بشكل كامل، ولم يكن هناك مفر من إسقاطه، وفى الحقيقة لم تكن مشكلة الغرب مع الإخوان المسلمين كبيرة، فهم ما بين الميوعة والليونة بالقدر الكافي للتعايش مع أوضاعهم سلميا، ولكن كان التحدي الأكبر، أمام تسييس نظامهم هم بقية الجماعات والتيارات الإسلامية الأخرى الموصوفة بالتشدد والتي كانت تحت عباءتهم.
 

ومن ثم استخدمت قوى الغرب وأمريكا كل الإمكانيات، وسخرت كل الطاقات، وأنفقت المليارات، من أجل صناعة ما يشبه الفرعون الجديد الذى يقتنع به الناس، والذى سيكون خادما أمينا وحاميا لمصالحهم، ناهيك عن أن الناس هم من سيبدؤون عبادته من تلقاء أنفسهم، وسيطبلون ويرقصون ويزمرون له.
 

وبأي حال، لم يكن هناك مانعاً من أن تتم صناعة هذا الفرعون المحبوب بتهميش فئة اجتماعية وتمييز أخرى على أخرى، فبالترغيب تارة، وبالترهيب تارة أخرى، سيكون هو رئيس مصر الذى لا مفر منه، فسواء شاء الشعب أم أبى، هناك من له رأي آخر في هذا الأمر، ولا مانع من أن ينهار اقتصاد دولة بالكامل من أجل تحقيق مآرب أخرى تريدها القوى الظلامية المسيطرة، التي تعيش على دماء الشعوب الأخرى وتحقق حرياتها بعبودية الآخرين.
 

والمراقب للمشهد من خارج القوقعة، يدرك تماما أن هذه العبودية كان الناس قديما يجبرون عليها، ولكن ما يجعل الأمر مثيرا لدهشة المتأمل، أن في عصرنا هذا الناس هم من يختارون تلك العبودية، حتى لو شمل ذلك بعضا من خاصة الناس ومثقفيهم، حيث أعظم المصائب هي النتاج الأكبر لعدم الوعي الكافي من بعض النخبة، الذين يتم استغلالهم ليصفقوا ويهللوا ويرفعوا فوق رؤوسهم البيادات (وهي جمع بيادة وتعني الحذاء العسكري).
 

عندما يسكن نفوس البشر، ينطق بصوت عالي: "أنا ربكم الأعلى، ولكن أنتم من اخترتموني، ولم يكن إعلامي وأشياعي سوى شياطيناً يزينون لكم الطريق".

ويبقى السؤال، كيف لشعوب لها دروس في الماضي منذ قديم الأزل، أن لا يتعلموا من ماضيهم، بل يصل الأمر لاقتتالهم داخليا وتجييش وحشد أنفسهم مثلما تحشد الأغنام أنفسها حول الراعي، ثم يقتتلون ويحارب بعضهم بعضها؟
 

إنه اللاشيء يا سادة، عندما يسيطر ثم يكبر ويكبر على صدى الأحلام والأمنيات، عندما يبزغ ظلامه في العقول حينما يختفي بصيص الأمل، عندما تختفي أحلام الشعوب وطموحاتها وتسيطر الغوغائية على معالم الطريق، عندما تسيطر العقول الخاوية على صنع القرار، وعلى وعي الأمة دون شيء يسير من أدنى معايير القيم الإنسانية والعدل والخلق الكريم، ودون أدنى معرفة بالعلوم البشرية والتطور الحضاري. إنه اللاشيء عندما يسكن نفوس البشر أفرادا وجماعات ومجتمعات، حينها فقط ينطق هذا اللا شيء بصوت عالي "أنا ربكم الأعلى ولكن! أنتم من اخترتموني ولم يكن إعلامي وأشياعي سوى شياطيناً يزينون لكم الطريق".

 

ثم عن إرادة واعية، يجرهم هذا اللاشيئ إلى النهايات الحتمية المقيتة، وما زالوا يصفقون ويطبلون ويهللون، رغم أنهم لو نظروا للعالم لوجدوا أنفسهم يرقصون على الأنقاض، ولم يبقى شيء لهدمه. إنه الحضيض يا سادة.. إنه الصعود على طريق الآلام. ألا بعداً لعادٍ كما بعدت ثمود.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.