شعار قسم مدونات

مشاهدات هنغارية (٢): قصص اللاجئين في محطة كيليتي

blogs - refugee
حول محطة قطار كيليتي، وخاصة في الممرات الرابطة بين محطة المترو ومحطة القطار، كانت كل أسرة أو تجمع يتخذ ركناً له. كان منهم من ينتظر موعد قطاره المتجه إلى النمسا، ومن ثم إلى ألمانيا، ومنهم من كان ينتظر وصول أقرباء وأصدقاء لحقوا بهم في رحلة اللجوء.
 

قدم أغلب اللاجئين من سوريا، العراق، وأفغانستان وهناك من قدم من إيران أيضاً.. امتلئت المنطقة باللاجئين والمتطوعين والذين قادهم الفضول إلى مشاهدة ما يجري في المنطقة التي لم يكن ليعبر من خلالها سوى عدد قليل من المسافرين والسائحين الغربيين في صيف كل عام.. بالتأكيد، هناك من تغيرت نظرتهم للاجئين بعد أن جاؤوا إلى المحطة ليروا بأعينهم من قدموا إلى أوروبا بعد كل ما تحملوه من مشاق سفر آلاف الكيلومترات من بلدانهم مروراً بالأناضول وبلاد البلقان. لم تكن شرق أوروبا محطتهم الأخيرة بل كانت إحدى محطاتهم قبل الوصول إلى شمال القارة الخضراء.
 

لا شيء يستحيل الحدوث في منطقتنا المحاصرة من قبل ديكتاتوريات، مليشيات طائفية لا رادع لها، وتنظيمات تعود أفكارها الوحشية إلى عصور ما قبل التاريخ

قادني الفضول للقاء عدد من اللاجئين العرب لسماع قصصهم.. حاولت النظر في وجه من أردت سؤاله (قصدت استخدام التذكير لأن الحديث مع اللاجئات ربما كان سيسبب حساسيات) لاستشف نوعية شخصياتهم وما إذا كان يبدو عليهم الرغبة في الحديث.. كنت أعلم جيداً أنهم مروا بمصاعب لا يمكن لي تحملها، حاولت تخيل إحساسهم بالتحول إلى مادة للعرض والتصوير أيضاً في مكان كان يعج بالصحافيين.
 

ويمكن لي تخيل كيف شعروا بأحاسيس متناقضة تجاه شفقة المارين بين الاحتياج والنفور، ولكن أعتقد أن اللاجئين في هذه المرحلة كانوا قد فقدوا القدرة على التماسك والتظاهر بالصلابة التي غذوا أنفسهم بها في بداية الرحلة من بلادهم.
 

عند إحدى الأعمدة التي لازلت أتذكر مكانها جيداً، التقيت بأحد السوريين.. رجلاً بدى عليه أنه في العقد الرابع من عمره.. سألته عن قصة فراره من سوريا بعد سؤاله عن توفر الخدمات بالمحطة ووصول دعم منظمات الإغاثة الموجودة إليه.. حكى الرجل لي أنه فر بنصف أسرته وترك النصف الآخر مع زوجته التي لم تستطع اللحاق به لارتفاع تكاليف الرحلة.. وقبل أن يجهش بالبكاء، روى لي كيف كانت قوات النظام السوري تستعين بسيارته الميكروباص، غصباً، لتستخدمها في نقل الجنود إلى مناطق القتال. كان يتركها له جنود النظام محطمة في كل مرة يأخذونها منه ليعيد تصليحها من خاص ماله.. لم يعد الرجل قادراً على الاستمرار والعيش في سوريا في حال كهذا الحال.. سلبته قوات النظام من قوت يومه وفرقته عن أسرته.
 

وبينما أعاق حاجز اللغة التواصل مع الأفغان (فقدرتي على التحدث بالفارسية ضعيفة)، تواصلت مع لاجئين عرب آخرين.. التقيت بعدد من العراقيين الذين فروا من بلاد الرافدين، ولكن هناك منهم من امتنع عن الحديث خوفاً، التقيت بأستاذ جامعي أتذكر أنه كان يعمل بقسم الرياضيات بإحدى الجامعات العراقية.. قال لي إنه فر من العراق (أغلب الظن من بغداد) بعد أن تلقى تهديداً من أحد طلابه.
 

مرت سنة تقريباً منذ أزمة كيليتي ولم يزيد الشرق الأوسط إلا دموية ووحشية

حكى لي عضو هيئة التدريس الفار كيف أصبح الكيان المليشياوي الموازي بالعراق متحكماً في كل شيء.. فعندما غاب أحد الطلاب الذي يقاتل في صفوف إحدى المليشيات عن الامتحانات، قام الأستاذ بحرمانه من درجاته، لم يقبل الطالب بذلك، معللاً انشغاله بالاشتراك في معارك ضد تنظيم داعش، وعندما رفض الأستاذ المبرر، بغض النظر عن منطقية التبرير من عدمها وحق الأستاذ، هدده الطالب بالقتل.. لم يجد الرجل حلاً سوى الرحيل مع أسرته إلى خارج العراق بلا رجعة.
 

مرت سنة تقريباً منذ أزمة كيليتي ولم يزيد الشرق الأوسط إلا دموية ووحشية. بالتأكيد، لا يمكن التأكد من صحة هذه الروايات، ولكن لا شيء يستحيل الحدوث في منطقتنا المحاصرة من قبل ديكتاتوريات، مليشيات طائفية لا رادع لها، وتنظيمات تعود أفكارها الوحشية إلى عصور ما قبل التاريخ.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.