شعار قسم مدونات

قطار الثورة السورية إلى أين؟

blogs سوريا1

لماذا تأخَّر النصرُ في سوريا؟ ولماذا دفَع الشعب السوري هذه الضريبةَ الباهظة؟ وما مآلات الثورة السورية إثر استفحالِ المشهد الدموي؟ وكيف سيكون واقع ما بعد الثورة في ظلِّ هذه المُدخَلات الكثيرة التي تُحاصِر مستقبلَ الثورة؟ وأين يقف المستقبل، ومع من؟ – بعد رحيل الأسد – خصوصًا أننا لم نَحسِم هزيمة مَن دعموا النظام (الصين، وروسيا، وإيران، وأمريكا، وإسرائيل) وبعض النُّظم العربية التي لا تريد للثورة أن تتمدَّد؟

لن أكتب عن الجراح النازفة التي تؤرِّق كلَّ صاحب ضمير حي، وتَكشِف عن مجازر يَندى لها جبين من آمن بالله ربًّا وبالإسلام دينًا، ولكني سأذهب بعيدًا إلى حيث عاينت – عن كثَب – وأنا أتجوَّل في مخيمات اللاجئين على الحدود التركية مُستقرئًا آراء الناس ومُستمعًا إلى همساتهم وتخوُّفاتهم.

التقيتُ مع قادة وأئمة، وكثير من البسطاء الضائعين في وحلِ المأساة، استمعتُ أكثر إلى تصريحات بعض القادة العسكريين الذين يقودون العمل الجهادي في جبهات الشمال.

سورية اليوم بحاجة لإعداد جيل بل جيش من الموهوبين المُبدعين المثقَّفين في اختصاصات متعدِّدة، والتوافق على تعدُّد سياسي يُطفئ فتيل الطائفية

كنت أركِّز على سؤال واحد: ماذا سيكون موقفكم بعد ذَهاب الأسد؟ كيف تتصوَّرون سوريا المستقبل؟ ولماذا تأخَّر النصرُ في رأيكم؟

لن أقول إن المجاهدين يَنقُصهم خبرة في القتال وجُرأة في نصرة دين الله، لكنني أبحث عن إستراتيجيةٍ إداريةٍ في مأساة مجتمع أشعلتْ طاقاتِه الثارات، وأضحى لا يُفكِّر إلا في الثأر، لم أستمع من أحد لأي رؤية إستراتيجيَّة في تأهيل هذا الشعب، وإعادته إلى حالة من الاستقرار والفاعلية لبناء مجتمع مدني قابِلٍ لمعايشة حياة مستقرة، ومُعاينة مستقبل أكثرَ نَضارة وإشراقًا وتطوُّرا.

الكل يُفكِّر في الثأر، في القتل، في سحْق بقايا النظام المُجرِم، وسحْق الشيعة والعلويِّين، تَكاد البرامجُ الإبداعية لبناء سورية المستقبل تكون غائبةً عن أذهان المقاتلين الأُباة! فكيف يمكن أن يَنتصِر شعب ويبني مع غياب مُطلَق لإستراتيجيات البناء؟!

جماعة النُّصرة وأحرار الشام مقاتِلون أشداءُ، وأثرُهم على الأرض ظاهر جلي، لكنهم لا يمتلكون رؤية واضحة لما بعد الأسد، الشيخ الظواهري بعث رسالةً إلى المقاتلين طالَبهم فيها بإقامة دولة إسلامية – وهذا كلام جميل- لكنه  أيضًا كلام في سياق مُضطرِب لا يمكِن تفعيله إلا بإستراتيجيات رؤية واضحة، تجعل من إمكانية تنفيذ ذلك والوصول إلى دولة ذات سيادة واقعًا متحقِّقًا.

الظواهري لم يُقدِّم لنا رؤية حول الكيفية التي يمكن من خلالها أن يتوافَق المجتمع المدني السوري على هذه الدولة، خصوصًا أن أعداء هذه الفكرة ليسوا نائمين وليسوا قلة. وهل الإعلان عن ميلاد دولة إسلاميَّة كافٍ لتحقيق الهدف المنشود من إقامة تلك الدولة؟

إن إقامة دولة في سوريا يعني- عمليًّا – إنهاء نظام يَحكم الناس بالسَّوط والسيف، والإتيان ببديل يُحقِّق لهم الرفاهية والعيش الكريم، ويبدأ رحلة التطوير وصولاً إلى دولة ذات سيادة تمتلك أسبابَ القوة والازدهار.

سورية اليوم بحاجة إلى نُخبة سياسيَّة صادقة أمينة، تُخرِجها من فوضى الاضطراب وتُخلِّصها من بين أنياب المتآمرين وتَضعها على جادة الصواب

أما نظام الحكم، فهو مُتعلِّق بدستور تتوافَق عليه الأحزاب، وهنا يقع دور الأحزاب الإسلامية صاحبة الرؤية الشرعية كي تُقدِّم للناس دستورًا ينطلق من مبادئ الشريعة ويُحقِّق ما أمر الله، ويقنع الشعب ويُحقِّق الأمن، ثم على هذه الرؤية أن تُقدَّم بآليةٍ فنيَّة تضمَن تحقيقَ ما أراده المنظِّرون، دون أن تُدخِل المنهج الإسلامي في عملية فشلٍ جديدة كما حدث في أماكن متعددة؛ حيث حِيلَ بين الناس وبين الإسلام بسبب استعجال بعض الإسلاميِّين للإعلان عن مشروعه الإسلامي في صورة دولة، دون توفير آليات تنفيذه كما في مالي وأفغانستان على سبيل المثال.

إن سوريا تحتاج إلى أشياءَ كثيرة، تتجاوَز مجردَ المطالبة بإقامة دولة إسلامية؛ أي أن العاملين على الساحة السورية عليهم أن يقرؤوا المشهد قراءة دقيقة، ويبدؤوا بتقديم العلاج وَفْق رؤية تدريجيَّة تضمن نجاعة العلاج؛ فالدواء مهما كان ناجعًا قد يُعطى دفعة واحدة، فيَقتل المريض ولا يَشفيه، وكذلك الدولة، وقد أرَعَبني ما تناهى إلى سمعي من تكديس بعض الجماعات المسلحة في الأسلحة بُغية استخدامها في حسْم أمر الدولة بعد سقوط الأسد، وقول بعضهم: إنهم لن يُلقوا السلاح حتى تُقام الدولة الإسلامية.

ومع أن إقامة الدولة المذكورة غاية شريفة، إلا أن القراءة القاصرة لواقع تجربة الثورية السورية يجعلني أزعم أن هؤلاء الثائرين لا يمتلِكون أي تصوُّر نافع يُقدِّمونه للدقائق الأولى التي تعقُب انهيار نظام الأسد.

إن سورية اليوم بحاجة لإعداد جيل بل جيش من الموهوبين المُبدعين المثقَّفين في اختصاصات متعدِّدة، ثم التوافق على تعدُّد سياسي يُطفئ فتيل الطائفية ويُخمِد نار الثأر، ويؤسِّس لمرحلة البناء ويهيئ الأرض لعودة اللاجئين، واستقرار المدنيِّين ومزاولة حياة لا ضِراب فيها ولا قِراع.

إن سفْك الدماء لم يكن غاية إسلامية في يوم من الأيام، ولكنه وسيلة بضوابط يُحدِّدها الشارع، أما مزاولة الحكم، فهو: عميلة جراحية تحتاج إلى طبيبٍ ماهر، يعرف كيف يَحيك الجرح النازف دون أن يَزيد الفتكَ ويُتلِف الأعضاء.

إن سورية اليوم بحاجة إلى نُخبة سياسيَّة صادقة أمينة، تُخرِجها من فوضى الاضطراب وتُخلِّصها من بين أنياب المتآمرين، وتَضعها على جادة الصواب، لينطلِق بها قطار التحرر إلى محطة الاستقرار؛ محطة الدولة التي يأمن فيها الصِّغار والكبار مكرَ مَن يحكُمهم بظلم أو يتآمر عليهم بدهاء، ولن يتم ذلك إلا بوعي ثاقب وإرادة قوية، وما النصرُ إلا من عند الله والله خيرٌ حافظًا وهو أرحم الراحمين.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.