شعار قسم مدونات

أبي ليس دائما أبي 1/2

blogs- school

كنا في أيلول، حيث يتخلص الجو من بقايا الصيف الذي أمضيتُ جل أيامه في كتّاب قرآني، فنحن لا نسافر كثيراً، حسبنا أن نذهب نحوالشاطئ كل يوم اثنين، لا أدري ما الحكمة في هذا، ولكن أبي يُصر الذهاب فقط يوم الاثنين. وقفنا منتظمين في طابور من خمسين تلميذاً مثنى مثنى، صف للإناث ثم مسافة، صف للذكور، ثم مسافة أخرى.. حاوية الأزبال، ثم السارية التي تحمل العلم الوطني الذي يرفعه المُدير كعادته عند أول يوم في السنة الدراسية.
 

بعد تسع سنوات ما زلتُ أتصور الأمر بالطريقة ذاتها، إنه أشبه باستعراض في قاعدة عسكرية حيث يقف أساتذتنا دون أن يُظهروا أسنانهم، ونحن كضباط الصف نُنشد النشيد الوطني بحماسة أصيلة، ويكتفي المدير بضحكة بلهاء ورأسه تُساير صراخنا.
 

دخلت حجرة الدرس، وبدا الأستاذ مُتقدما في توازي مع حائط القسم، أرى ظله من الستائر، لم يكن غريباً عني خياله، وفي نفس الوقت احتفظت بحقي في الشعور بالرهبة. مُقطب الحاجبين، شاربه المقصوص حديثاً بعناية شبابية مُنسقة. يرتدي قميصاً صيفياً فضفاضا يُلغي كافة الإحتمالات في رصد مدى بدانته أو رشاقته، بادل بعض التلاميذ الذين يعرفهم سلفاً ضحكات جانبية فاترة، وبصوت مسموع ومُركز صاح فينا قائلا: انتباه. من كان يظن أن الذي أمامي هو السيد أبي ولي أمري وأستاذي هذه السنة.

الوقتُ الذي استغرقته في البحث عن طريقة ذهنية لكي أتعود أن ثمة إزدواجية أدوار يتقمصها أبي كان قصيراً، كنتُ أنظر إليه بإعجاب حذر، وبادلته ابتسامةً لجس النبض، ولم يتفاعل معي، بل أخذ يَنظر بتفحص حجرة الدرس، لقد كانت العادة الدائمة في بداية أول يوم دراسي، أن يتم ترتيب أماكننا التي سنُلازمها طوال السنة، – وبالمناسبة فهذه الطريقة هي من تقاليد المدرسة العربية، وهي التعبير عن بنية الكسل المرافقة لنا مذ ضاعت الأندلس – كنتُ أنظر أن أبي أستاذي سيختار لي مكانا قريباً من مكتبه، على اعتبار أنه المكان المفضل بين التلاميذ، لأنه وإن كان أقرب الطريق نحو قلب الرجل معدته، فإن أقرب الطريق إلى قلب الأستاذ المقعد الذي يقربه جداً. وحيث أن أبي ليس كأبي في القسم، فقد اعتمد مبدأ المناوبة في المقاعد، حيث يتم تبادل المقاعد كل يوم بين الطلاب، وهكذا حتى نهاية الموسم.
 

كنتُ صغير السن لم أدرك وقتها كيف أمكنني التعامل مع شخصين في شخص واحد، هل أناديه بابا أم أستاذ. ثم لماذا يقعد بهذه الطريقة المملة في مكتبه دون أن يأتي لكي يُعدل من عقدة حذائي المفكوكة؟ هل أذهب إليه؟ ولكنه أستاذي، وعليَّ أن ألتزم كسائر الطلاب في الفصل وإلا.. وإلا ماذا؟ عوَّدني أبي أن لا أكون شخصاً فوضويا، وبعد سنين من هذا التعود بتُّ غير قادر على إظهار جانبي الطفولي من شخصيتي، بالمقابل تعلمت أن أتعامل بكل جدّية مع الحياة بأحوالها؛ لهذا فأنا لا أشعر بشيء مُحدد تُجاه هذا الأمر.
 

ظللتُ أراقبه في صمت. خاطبتُ أمي في ذهني: تعالي وانظري، هذا أبي الذي ليس أبي. فكرت في أنه سيأتي عليَّ يوم ربما وقد أتغيَّب لسبب ما، وسيطلبون مني قدوم ولي الأمر، هل سآتي بأمي لأبي للفصل كي تبرر غياباً بالضرورة هو في علم أبي أبي، ولكنه ليس في علم أبي الأستاذ؟ يا لها من ورطة حقاًّ، سأعلم بعد سنين بالصدفة أن أمر تسجيلي بنفس المدرسة وبنفس الفصل الذي يُدرس بهما والدي، تم بترتيب مسبق وعن سبق إصرار.
 

إننا لسنا دائما نحنُ نحنُ، وقدرتنا على إحداث تصفية للشعور إزاء الوضعيات المحدثة، هو الأمر الذي يُعطي لأي موقف رونقه الخاص، وقيمته الشاعرية.

حسناً ها هويقف الآن ممسكا بالطبشورة، تحدث إلينا بفرنسية متقنة، وبعد أن كتب تاريخ اليوم في السبورة بخط أنيق طلب منَّا أن نُعرف بأنفسنا، وعليَّ أن أعترف لكم أني لم أفهم جملته جيدا، إلا أن شرحت لي زميلة تجلس بجانبي. ماذا؟ هل سنتعارف أنا وأبي؟ لاحظت أنه طلب من كل زملائي أن يذكروا له هوايتهم، وهذا في حد ذاته مأزق شخصي وأسري، والآن يتحول لمأزق مُؤسسي عويص. أراهن اليوم بكل ما لدي أنه لم يكن أباً بكامل أبوته، ولم يكن أستاذا بكل أستاذيته، لقد تعمَّد هذا الأمر حيث أني في المنزل لا أفعل شيئا سوى الجلوس أمام التلفاز، وهذا أمر مزعج له ويطالبني بأن أمارس هواية ما، لماذا لا يريد أن يفهم أنها هواية في ذاتها ؟ بالنسبة لأي أستاذ أيَّا كان، فإن أي هواية لا يجب أن تخرج من دائرة كل ما هوتَعَلُّمي.
 

لقد جاء دوري، تقدمتُ نحوالسبورة بخطى ثقيلة دون أن أنظر لأحد، وضممت يدي إلى بعضها، ونظرت إلى أستاذي، وبفرنسية مُعاقة أخبرتُه إسمي، وسني، وهوايتي التي هي الجلوس للتلفاز. بادلني نظرات لا معنى لها، وصاح في زميلي الذي يليني. كان يحاول أن يكون عادلاً بيننا، وكنت أشعر دائما أن تجاهله المتعمد لي يدخل من باب أنكم كلكم سواسية أمام القلم الأحمر، والقلم الأحمر هو المُستعمل في تصحيح أوراق الفروض ووضع النقط. كان الأسبوع الأول ينتابني الكثير من الإرباك، كنتُ آتي إليه كل مساء وأطلب منه أن يساعدني في الفروض المنزلية التي يطلبها منَّا، وكنت أحس بمقاومة لشعوره كأب وأيضاً كأستاذ لا يتوفر للبقية في منازلهم. كان يقول لي: أكتب أي شيئ في الإجابة.. سيُصحح لكم الأستاذ، لقد كان حتما يقصد نفسه، لكن حريص دائما أن يفرق بينه وبينه، كيف له أن يتغير بهذه الطريقة ولا يجرؤ حتى على قول: سأصحح لكم غداً.. هل أعامله أيضاً كتلميذ في الفصل وابنه غير المدلل في المنزل؟ تخليتُ عن هذه الفكرة سريعاً حيث لا سلطة لي، ولن أغير شيئاَ، ثم إنني لا أستطيع حالياً إلا أن أشعر بشعور واحد: أن الذي أمامي يظل دائما أبي.
 

بعد كل هذه السنوات، ما زلت أنظر لهذه التجربة بنفس الدهشة. وصحيح أيضاً أني أحاول دائما تقديمها لمعارفي بشكل ساخر أو كوميدي، إلا أنها في داخلي تُشكل نقطة مهمة في أننا لسنا دائما نحنُ نحنُ، وبأن قدرتنا على إحداث تصفية للشعور إزاء الوضعيات المحدثة هو الأمر الذي يُعطي لأي موقف رونقه الخاص وقيمته الشَّاعرية، هل كُنت محظوظاَ أن أعيش سنة كاملة وسط هذا المد والجزر؟

يُتبع.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.