شعار قسم مدونات

هل قرأتم القرآن من طبعته الشعبية؟

blogs - quran
حتى الآن، لم يغب عن ذاكرتي شكل الطبعة التي كانت تقرأ لي منها خالتي عدة سور من جزء عم، حتى يتسن لي حفظها. كان مصحفاً مغلفاً بورق غير مصقول، يميل ورقه من الداخل إلى اللون الأصفر، ولا يحتوي على تفسير للآيات على الهوامش.

عرفت لاحقاً أن تلك النسخ من أجزاء القرآن كانت تطبع في مطابع أم درمان، كانت واسعة الانتشار، باستثناء نسخ مصقولة الأغلفة، تحتوي على تفسير للآيات على الهوامش، يأتي بها المغتربون من الخليج. كانت توضع في "يونتات" المنازل بغرض الزينة، ولا تستخدم كثيراً. حيث لم تكن الأوقاف العربية على طباعة المصحف تأتي إلى السودان، غضباً على شعب كان يحكمه السيد الصادق المهدي.

حتى مشارف المرحلة المتوسطة، كنت أنا الطالب الذي يقيم الأذان في مدرسة بلال بن رباح، عندما يحين وقت صلاة الظهر، غير متطوع بل مكره.

في العام "1413هـ" كنت طالباً في الصف الثاني الابتدائي، لا أعرف العام المقابل له بالتقويم الميلادي، لأن المدرسين في مدرستي الجديدة في المدينة التي هاجرنا إليها مدرسة بلال بن رباح، لا يكتبون تقويم الكفار. ولم أجتهد الآن لمعرفته.

أذكر عقب عودتي من اليوم الدراسي الأول، سألت والدي عن التقويم الذي كتبه لنا الأستاذ على السبورة، ووجدت متعه أثناء كتابته، إذ كان سهلاً، رقمان قريبان من بعضهما "1314"، عكس التقويم الذي كانت تكتبه "الست" إنصاف على سبورة مدرسة السعادة بمدينة عطبرة شمال السودان.

سألته عن تقويم الكفار الذي قاله الأستاذ، لكنه لم يجب! سألته بعدها سؤال آخر عن جدوى كثرة الحريم في الدنيا! نظر إليَّ بوجه بشوش وأجابني بسؤال آخر: "من وين جبت الكلام ده؟" قلت إن الأستاذ الذي نهانا عن كتابة تقويم الكفار، قال وهو يوقف طلاب الصف الثاني في طابور الصباح في صفين بدلاً عن صف واحد، لأنهم كثر، قال: طلاب الصف الثاني كثر.. ربنا يكثر الحريم. لكن والدي لم يجب أيضاً وانصرف إلى شأن آخر.

حتى مشارف المرحلة المتوسطة، كنت أنا الطالب الذي يقيم الأذان في مدرسة بلال بن رباح، عندما يحين وقت صلاة الظهر، غير متطوع بل مكره؛ فأستاذ عبد الكريم ناصر كان يجبرني على ذلك، معه أستاذ سوداني آخر كثيف اللحية بارز الأسنان اسمه محمد الأمين، كان محمد الأمين يتولى المهمة حال انشغال الأول، زعماً أني طالب ذكي، لكن مشاغب وسهل الإنقياد، لذلك كانا يعاقباني بأكثر واجب كنت أتهرب من أدائه؛ رفع الأذان على مسامع الطلاب.

هددني أستاذ عبد الكريم أكثر من مرة بالحميراء التي كان يحملها – عصاة ملفوفة بشريط كهرباء لاصق لونه أحمر- بل ضربني بها مراراً. بعد أشهر وجدت مهمة رفع الأذان ممتعه، وبدأت أستعد لهذه المهمة قبل أن يحضر عبد الكريم بحميرائه؛ فوجدت منه بعض الثناء والتقدير. قال لي ذات مرة عقب إنتهاء صلاة الظهر: ستكون في المستقبل إماماً داعيا،ً إن شاء الله، عقب عودتك إلى بلادك، ومجاهداً في سبيله مناصراً لأخوانك في البوسنة والشيشان. جاء المستقبل وعدت إلى بلادي. لم أصبح داعياً، ولم أجاهد في البوسنة والشيشان.

كان فناء مدرسة بلال بن رباح يضج بالملصقات؛ ملصقات لصور أطفال سود البشرة نحيلة أجسادهم، صدورهم بارزة، وملصقات أخرى لبيت المقدس، وملصقات لأناس بيض البشرة منازلهم مدمرة، يعانون من شدة البرد، تلك الصورة كانت تستخدم لشحذ هممنا واستدرار عواطفنا، نحن الطلاب، على حال أخواننا المسلمين في شتى بقاع الأرض.

كرمت على جهودي المتواصلة ومواظبتي على رفع الأذان، بنسختين من القرآن، الأولى متوسطة مصقولة الغلاف، ورقها ناصع البياض، وأخرى صغيرة، غلافها مصنوع من القماش المضغوط، يفتح ويقفل بسحاب معدني، وكيس لونه أخضر متوسط الحجم بداخله عدد كبير من منشورات منظمة إسلامية غير رسمية دعوية، وكتاب آخر أذكر عنوانه حتى الآن "حصن المسلم". أخذت الهدية فرحاً إلى المنزل، لكن فرحتي قوبلت بعدم اكتراث من والديَّ؛ وسمعت يعلق ساخراً بعد أن أدار وجهه عن كيسي المعبأ بالهدايا قائلاً:" من عدم المصاحف.. كيسه ده ما بينفعك!".

كيف كنت سأبدو إن لم اقرأ القرآن من مصحف خالتي التي كانت تفسر لي منه قدر استطاعتها، وترجئ الآخر إلى الوقت الذي أكبر فيه وأفهمه دون الحاجة لأحد؟

بالأمس، كنت أستمع إلى والدتي تترحم على روح الطالبة السودانية "ر" التي لاقت حتفها بعد أن لبت نداء الجماعة لجهاد مزعوم. سألتني كيف اتخذت "ر" ذلك القرار، وأين كان أهلها، وكيف كانت تربيتهم لها؟ لم أجبها، بل باغتها برغبتي في الانضمام إلى المجموعة التي فضلتها "ر" على ذويها والتوجه إلى أرض الشام والعراق. نظرت إلى بجدية، نظره أعرفها جيداً وقالت: "نحن قصرنا معاك في شنو عليك الله عشان تجازينا الجزا ده؟" فوجئت باهتمامها بما قدمته لي، متجاوزة أمر القتال في سبيل الله! لم أجبها في حينها.

جالت بخاطري أسئلة خفت منها كثيراً: لو كانت والدتي تفرح بأكياس الهدايا التي كنت أجلبها من أستاذ عبد الكريم وأستاذ محمد الأمين، كيف كنت سأبدو الآن؟ ماذا لو كان والدي يحب أستاذ عبد الكريم؟ هل كنت سأحبه أيضاً وأحتفظ بهداياه؟ هل كنت سأكتفي برفع الأذان فقط، أم كنت سأنتمي إلى جمعيته في المدرسة؟ هل كنت سأبدو كما تمنى لي، داعياً إلى الدين الحنيف في السودان ومجاهداً في البوسنة والشيشان فقط؟ كيف كنت سأبدو إن لم اقرأ القرآن من مصحف خالتي التي كانت تفسر لي منه قدر استطاعتها، وترجئ الآخر إلى الوقت الذي أكبر فيه وأفهمه دون الحاجة لأحد؟

سكتت لبرهة وقلت لها بعد دوامة الأسئلة: لم تقصري؛ فقد كنت أنتِ ووالدي تعرفونهم قبل أن يعرفهم العالم. من يصطادون الأبرياء من المدارس وسوح الجامعات، للزج بهم في الجحيم لانتقام متوهم من أعداء متوهمين!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.