شعار قسم مدونات

هذيان الماضي والحاضر

blogs - tun
الريح عجوز تهذي في الأزقة الملتوية، والوقت كلب مسن يعجز عن قضم الأشياء القديمة المتناثرة في الزوايا الداكنة..

كانت نقوش الفحم الفاترة منتشرة على الجدران تروي قصص عشق ساذجة، وتحفظ الأسماء والألقاب والكنايات كمنديل كبير ركضت فوقه طعنات الخياط حتى صار مرقدا للعبث، قبل مجيء الوزير الطموح الذي أمر بطلاء جدران المدينة وحجب الكتابات الداكنة التي قال أنها تذكره بالفتى الذي احترق ذات سنة في أرض منسية، وحشر لنزوته شباب الحي العاطلين عن العمل، وأمر بانتدابهم في الحضائر ليكنسوا الماضي ويحجبوا شعارات الأمس التي غطت جدران القرية بطلاء بخس بياضه عتمة للناظرين. الآن وهنا، الأزقة عادت بيضاء مملة، والريح مازالت تعوي كل عشية كأنها أرملة حزينة ترقب عودة جندي منتحر في الفجوج البعيدة.. والفحم لم يعد يصلح للكتابة بعد أن إبتلت كفوف الناس عرقا من مصافحة الوزير الجديد.

في تونس، يتبعك الندم حيثما ذهبت، وتلفحك الخيبة أينما وليت وجهك، وتحاصرك ذكريات ثورة الأمس القريب فترى الناس يندبون الماضي والحاضر، ويتحاشون الفأل المنبئ بالمستقبل، فالكل هنا يرى النجاح الديمقراطي والإنتقال السلس بين الحكومات مجرد شعارات لا تعدُ أن تكون مسكّنا لآلام مخاض الثورة العسير، ومكسباًَ هزيلا لا يغني عن قطاف التغيّر التاريخي من الاستبداد إلى الحرية الذي عُلّقت فيه آمال الشعب حين نادى في الشارع الكبير "خبز وما وبن علي لا".
 
بوصول حزب نداء تونس إلى كل مفاصل الحكم، زاد انسداد الأفق، وتعمقت هشاشة الأوضاع، حتى أصبح الحال أشبه بالأزمة المؤجلة.

أشياء كثيرة تجعل ماضي الواقع التونسي لا يختلف عن حاضره، فتعاقب الحكومات التي شُكّلت بع ثورة الرابع عشر من جانفي 2011 كشف مدى إرتباط الأمس باليوم و إمتداد خيوط اليأس التي ضمّت ما قبل الثورة إلى ما بعدها و رتقت هوّة التغيير التي كادت تعصف برموز الأنظمة المستبدة من الدستوريين إلى التجمعيين جوقة الحبيب بورقيبة و زين العابدين بن علي التي تمايلت طواعية مع رياح الثورة قبل أن تنقلب مع أولى إنتكاساتها ساخرة من إنتصارات شباب الهامش و نضالات سكان القرى المنسية؛ لذلك لا نرى إختلافا عميقا بين ماض جثم فوق أحلامنا ولطّخها بقبح من سادوا البلاد فيه و حاضر مازال يتعرّق من فرط إنسداد الأفق ، حتى صار الحديث عن تحقيق أهداف الثورة التونسية أقرب للهذيان منه إلى الحقيقة ، و بات انحراف السلطة عن مسار تفعيل المطالب الشعبية الملحة يقينا.

بوصول حزب نداء تونس إلى كل مفاصل الحكم ، زاد انسداد الأفق و تعمقت هشاشة الأوضاع ، حتى أصبح الحال اشبه بالأزمة المؤجلة، وانكشفت حقيقة الوعود الانتخابية التي لم تكن سوى مسكنات بخسة الثمن تلجم الأفواه الصارخة ولا تعالج الوجع ، لتدخل البلاد مرحلة الإرتباك الذي عجّل برحيل الحكومات المتعاقبة ، وألبس الحاضر والمستقبل جلباب الغموض الذي صرنا نراه حذونا يلبس ملبسنا و يأكل مأكلنا و ينام على جراح الوطن المفتوحة كأنه ضمادة خشنة ، فلا الساسة رفعوا الضمادة و لا الثورة رتقت الجرح ، و سادة القوم لا يستطيعون شيئا أو لنقل لا يشاؤون إستطاعة غير حكم البلاد على جراحها و توزيع الأوهام على الناس في كؤوس من طين ، طينها يشتد في كفوف المسؤولين و يذوب على موائد العامّة الذين سأموا إنتظار إمطار سحائب السلطة التي مازالت تحجب شمس الغد دون أن تغيث البلاد بمطر السعادة.
قد يختلف الأمر قليلا إن نظرنا للنصف المملوء من الكوب، لكن النصف الفارغ منذر بالفشل وشاهد على نصف خيبة أو ربما أكثر من ذلك بكثير، فالانتصار لا ينسّب والهزيمة إن خُصّت عمّت.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.