شعار قسم مدونات

صخبُ الشاطئ: أمواج الحرب في عالمنا

blogs - kaf
رُبّما تساءَلَ كافكا وهُو مُستلقٍ على الشاطئ ذات يوم، متأمِّلاً تلاطُمَ الموج على الصخور: "لماذا نتقاتَل؟ لماذا رحى الحرب دائِرةُ لا تستريح؟" .. ليس رُبَّما، بل حتماً طرحَ على نفسِهِ هذا السؤال مراتٍ عديدة. فحياتُهُ لم يهدأ صخَبُها يوماً، ولم تتوقَّف في نفسِهِ ومِن حولِهِ الحربُ هُنَيهَة.
لقد حاوَلَ موراكامي، الكاتِب اليابانيّ الشهير، في روايته "كافكا على الشاطئ" أن يُلقيَ الضوء على جواب هذا التساؤل في الجزء الأخير من الرواية، حينَ كُسِرَ الحاجِزُ بين عالمَين. هذان العالمَان، حسبما أرى، هُما عالمُ الحرب وعالم السلام، جهنَّم والفردوس، الواقِع واليوتوبيا.

يكفي أن تجلسَ ساعةً مُستمِعاً لإذاعةٍ إخباريةٍ، أو مُتابعاً لنشرةِ أخبارٍ تلفزيونية حتى يبدأ صدرك بالانكماش شيئاً فشيئاً إلى أن يتصدّع قلبُك. ثمّ لا تلبث حتّى تبصُق على يدَيكَ دماً. تنظُرُ إليه، وتُدرِك: "أرى العالمَ بينَ يديّ. العالمُ كلُّه يقطُر دماً". رُبَّما إن تأمَّل الواحِد فينا أكثَر، فإنَّه ينصَرِفَ عن التفكير بالصُّورة الداميةِ على أرض الواقِع كما تنقُلُها وسائل الإعلام، كي يُفجَعَ بالحرب الدَّائرة في نفسِهِ. فَفِي لحظة صفاء، تُبرِزُ الحقيقَةُ أنيابَها، فلا يلبثُ أحدُنا بعد ذلك أن ترتعِد فرائصهُ ويُصيبَهُ اليأس فجأةً. فإنَّ الدّم لا يُغرق العالم الخارجي فحسب، وقَيحُ الكراهيةِ يُلَطّخُ أولاً نفوس البَشَر قبل أن يُلَطّخوا هُم بهِ وجه الواقِع.

قيح الكراهية يُلطخ أولاً نفوس البشر قبل أن يُلطخوا هم به وجه الواقع.
حقيقةٌ مُرَّة، أليس كذلك؟ تماماً كالدَّواء. لا بدّ أن نتقبَّلهُ رغم كُلّ شيء حتى ينجليَ أمامنا طريقُ الشَّفاء. فإنَّ رفضُنا لهُ يحبِسُنا بين ألَمَين، المرَض وسرابُ الأمل. ما الحل؟ كيف نُوقِفُ الحرب؟

يخطو كافكا خطواتِهِ الأولى في عالم الحلّ: العالم الطوباوي. فتتكشَّفُ مع خطواتِهِ معالم اليوتوبيا الجديدة. الكهرباء، شرارة الحضارة. شرارةُ التفوُّق والطغيان البشريّ. في عالمِ كافكا، لا كهرباء. لا تكنولوجيا! رُبَّما أسَرَّ كافكا في نفسِهِ: "قد يكُون هذا حلُّ كُلِّ شيء!". ولكن، في اللحظة ذاتها يلتمِعُ سؤالٌ وجوابٌ في ذهنِهِ: "هل كان الإنسانُ قبل الكهرباء مُسالِماً وادِعاً، أم مُحارباً شرِساً؟ مُحارباً شرِساً بالطبع!". عالمٌ بلا كهرباء ليس عالماً طوباوياً بالكامِل.

الافتراس. الشَّرَه. "رُبَّما تكُونُ هذه شرارةُ الحَرب" يُفكِّرُ كافكا. "رُبَّما تكونُ رائحة لحوم الآخرين ودِماؤهِم هي الدَّافَع الرَّئيس الذي يُحرّكُنا نحو القَتل والنَّهب في هذا العالم". في عالَم كافكا، النَّباتُ هو الغّذاء الرّئيس. ليس هُنالِك لحم! العالمُ هُناكَ خالٍ من الدَّم المسفوح. رُبَّما يقنَعُ كاتبٌ آخَر عند هذا الحدّ، ويرضى بهذا حلاً شافياً للحرب فيُريحُ كافكا من التفكير، ويمضي في سرد قِصَّتِهِ غيرَ آبهٍ بالتعمُّقِ أكثر. ولكننا نتحدَّثُ عن موراكامي، وهو يعلم أن جذر الحَرب أعمق من ذلك كُلِّهِ ولا يقتصِرُ فقط على مجرَّد كهرباء وتكنولوجيا ونظام نباتيّ! لذلك، حتّى تكتمِلَ الصُّورة الطوباويَّة، اختار الكاتِبُ أن يكونَ عالمُ كافكا خالياً من البَشَر أنفسِهِم أيضاً! فلا نجِدُ في تلك اليوتوبيا إلا كافكا فقط، وفتاةٌ جميلة تقومُ على خِدمتِهِ.
ربَّما أراد موراكامي بهذه الصُّورةِ أن يُعيدَ القارىء إلى فردَوس آدم وحوَّاء. إلى ذلك اللاوقت، قبل أن يعرِف آدم وحوّاء نفسيهِما، وقبل أن تنفُثَ الأفعى سُمَّها في أنفِ قابيل لِتوقِظَ فيه شهوة الدَّم إذ يشتَمُّ رائحة دمِ أخيه لأول مرة. ذلك اللاوقت، الذي تجسَّد فيه السلام حقيقةً للمرة الأولى والأخيرة.

ما معنى هذا كلِّهِ؟ ربَّما لا يحتاجُ المعنى مزيدَ توضيح. الحربُ بيننا باقيَةٌ ما بقينا! هيَ أشبَهُ ما تكون بالشَّهوة، كشهوةِ أحدنا للطعام مثلاً. فبعدَ وجبةٍ دسمةٍ، أو حربٍ عالميةٍ طاحنةٍ، نشعُرُ بالشّبع والاكتفاء. لكنّ الجوع لا يلبثُ أن يعود. أو هِيَ، ربَّما، أشبهُ بالغريزة، كغريزة الشهيق والزَّفير. نفعلُها دونَ وعيٍ أو تفكير. أو لعلَّها تكونُ لوناً من الإدمان المَرَضيّ الذي لا دواء له.
 

تأكلنا العواصف رغماً عنا، فنتنقل بين شبعٍ وجوع. بين سلمٍ وحرب.. وبين هذا وذاك، تنطفىء أرواح، وتسيل دماء، وتنكسر قلوب، وتبكي آمال مرارة الخيبة.

في كُلِّ الحالات، هي جًزءٌ مِنا. ولهذا، في رأيي، لم يُطِق كافكا صبراً في عالمِهِ الطوباوي، وما لبِثَ أن قرر العودةَ إلى العالم الواقعي شوقاً، ربَّما، إلى شاطئِهِ الصاخِب. تركَ الطبيعة الخضراء، والفتاة الحسناء، والهدوء اللذيذ، واختار أن يأكُلَ التُّفاحة، مرةً أخرى، أسوةً بأبيه. في الحقيقة، لا جَرَمَ عليه، وليس من العَدل لومُهُ، فهُو لن يستطيع تغيير تلكَ الطِّينة التي جُبِلَ مِنها. قد ذهَبَ عنهُ الشَّبع، وعاد الجوع. لا حيلةَ لهُ في ذلك. يقول موراكامي، مُلخِّصاً المشهد: "القدَر كعاصفة رملية صغيرة لا تنفك تغير اتجاهاتها ، لكنها تلاحقك. تراوغها مرة بعد أخرى لكنها تتكيف!"

هذه سيرتُنا في هذا العالَم الصاخِب، تأكُلُنا العواصِفُ وتدُورُ بنا الأعاصير رغماً عنّا، فنتنَقَّلُ بين شبَعٍ وجوع. بينَ سِلمٍ وحرب. بين وسيلةٍ نظيفةٍ لغاية نظيفة و غايةٍ تُبرِّرُ أيَّ وسيلة. وبين هذا وذاك، تنطفىءُ أرواحٌ، وتسيلُ دماءٌ، وتنكسرُ قلوبٌ، وتبكي آمالٌ مرارة الخيبة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.