شعار قسم مدونات

الطنطورية

blogs - rad

انتهيت من قراءة الطنطورية لرضوى عاشور أمس بعد أن مكثت على الرف أشهراً، كلما مررت بها كنت أحس بأنه سيأتي الوقت المناسب لأقرأها وانتهي قبلها من ثلاثية غرناطة. أربعمائة وست وستون صفحة، جاء الوقت لأقرأها منذ أسبوع، وللصدفة البحتة بأني قرأتها في تاريخ قريب لذكرى مجزرة صبرا وشاتيلا، لأيامٍ كانت رقية الطنطورية بطلة الرواية تُصاحبني، لا أدري لماذا أحسست بأني أعرفها جيداً، أو أنها تشبه امرأة أعرفها جيدا، وربما كنتُ أنا تلك المرأة.
 

كيف يمكن لرواية واحدة أن تضمّ كل ما ضمته رضوى في الطنطورية، وأن تجعل امرأة لم تكمل تعليمها تحمل وطناً وتركض به

كل كلمة كتبتها رضوى في هذه الرواية، تشعر وكأنها محسوبة وبدقة، وفي مكانها الصحيح، حتى صمت رقية كان بالإمكان لمسه والشعور به، القهر الذي عايشته طوال حياتها منذ الطفولة وإلى الشيخوخة، من موت أبيها وإخوتها في مجزرة الطنطورة أمام عينيها، ومن بعدها مجزرة صبرا وشاتيلا، ذلك الصراخ المكتوم في داخلها لا أعرف كيف استطاعت رضوى كتابته، ليصبح شخصية بحد ذاته، ترى ملامحه وأبعاده جيداً من خلال السطور.
 

بعض المدن نسكنها، والبعض الآخر يسكن فينا، والطنطورة سكنت رقية وتوطنت في ملامحها، فلسطين تجسدت في الطنطورة، والطنطورة تجسدت في امرأة، لا تحلم بشيء سوى أن تعود لها، هي وأولادها جميعاً بعدما ذهب أهلها وزوجها كل منهم في مجزرة مختلفة. رهبة كانت تسري داخلي، وفي بعض الصفحات وقفت عاجزة، ثمة غباش كان يلف عيني بالدمع، رائحة القتل والجرائم التي حدثت عبر التاريخ تكاد تشمها، وتراها أمامك حاضرة بكل صخبها ووجعها، نعم كانت الشخوص والقصة متخيلة، لكن القضية والتواريخ كانت حقيقية حدَّ الوجع.

 

كيف يمكن لرواية واحدة أن تضمّ كل ما ضمته رضوى في الطنطورية، وأن تجعل امرأة لم تكمل تعليمها تحمل وطناً وتركض به، تحرسه بالذكرى والمذكرات التي تكتبها بعدما ألحَّ عليها ابنها حسن لكتابتها، ربما هي الظروف التي عايشتها وصعوبتها خلقت أديباً بداخلها قادر على أن يُعيد إحياء التاريخ بقصصه ووصفه وكل ما فيه، كي لا ننسى أبدا، وكي نحب هذا الوطن أكثر مما نحتمل، وأقل مما يستحق.
 

على كل ما ذُكر في الطنطورية إلا أن رضوى الرائعة ختمتها ببداية، بداية رائحة البلاد، والبحر والبرتقال، بداية لغد آخر. ذهبت رقية مع رفيقاتها وجاراتها في رحلة إلى الفاصل بين لبنان وفلسطين، سياج لم يمنعها من مقابلة فتاة وشيخ من الطنطورة وسؤالهما عنها، ثم يفاجئها ابنها حسن وعائلته ورقية الصغيرة التي أنجبتها زوجته قبل أربعة أشهر، وكأن رضوى تُعلن أملا جديدا بالعودة، رقية الكبيرة شاخت، لتأتي رقية الصغيرة، تبدأ من جديد ومن فلسطين، رحلة أخرى من وإلى البلاد.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.