شعار قسم مدونات

"لعبة الشيطان والتّدين المغشوش"

blogs - pray
لا يخفى على أحد منّا بأنّ الدين يمثل الحالة المثالية المقدسة في مجتمعاتنا على المستوى الفردي والجَمعي بشكل عام، فمنه يستمد الكثيرون سلوكهم وتصوراتهم واعتقاداتهم وبذلك يتشكل لدى الكثيرين منهم رؤية ما للحياة بناءً على تعليمات الدين المُحرِّكة لذلك السلوك أو ذاك الاعتقاد وتلك القناعات بحسب الأفهام وآليات التلقي والتعامل مع النصوص.

وتجاوزاً لموقف الفرد من الدين وتعاليمه فإنّ ما يهمّنا في المقام الأول هو درجة التأثٌّر والتأثير الذي يُحدِثه الدين في حياة الأفراد والمجتمعات.

السلوك الحميد للفرد أو المجتمع ينبغي أنْ يقوم على أساس متين منشأَهُ الفهم الصحيح والعميق لجوهر ومضمون هذا الدّين.

عندما نقول بأنّ السلوك الحميد للفرد أو المجتمع ينبغي أنْ يقوم على أساس متين منشأَهُ الفهم الصحيح والعميق لجوهر ومضمون هذا الدّين ، فكان لزاماً علينا فهم معادلة الصراع التي نشأت منذ الأزل في محاولة دائمة ومتنوعة من الشيطان – مُشعِل فتيل هذا الصراع – والهادفة لتشويه وتلبيس المفاهيم السليمة وتحطيم غايات وأهداف الوجود الإنسانيّ بشتى الوسائل والخطط.

هذا المسار الذي خطّه الشيطان لنفسه وأخذه على عاتقه في إصرار واضح منه لمعاداة الإنسان بكل ما أُوتي من زخرف وحِيل ومكر ودهاء ، بل إنّه قد اشترى جهنّم لنفسه في سبيل تحقيق هدفه وغايته " قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَٰذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا " وبهذا وجب على الإنسان أن لا يستهين بهذا العدو وأن يستشعر توجيه الإله له بكل جدية في معرض التحذير منه " إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا " ومن مقتضيات هذا التوجيه أن يُجاهد الإنسان نفسه باستمرار في محاولة فك تلبيسات الشيطان وتعقيداته وتحايلاته على الفهم الصحيح لتعاليم ونصوص الدّين والتي يهدف منها الشيطان لإلهاء الإنسان والالتفاف عليه وتبديل أولوياته وإشغاله بالتوافه والدونيات دون الغايات السامية والأهداف والقيم والأخلاق المُميِزة له كإنسان ذات قداسة ربانية.

ومن وسائل الشيطان محاولاته المستمرة لإحداث فجوة وتناقض رهيب في كثير من القضايا الجوهرية المرتبطة بمصير الإنسان وغايات وجوده في الحياة الدنيا مع إحداث خلل كبير في آلية الربط ما بين احتياجات الإنسان الفطرية والتفسيرات الغريبة للآيات القرآنية ذات الصلة.

ومن هنا يكون مدخل الشيطان للإنسان عن طريق الوعّاظ الجهلة ورجال الدّين مسلوبي الوعي ، دافعاً إياهم نحو عملية وعظ مستمر للتزهيد في كل ما هو بمثابة زينة أو ضرورة فطريّة للإنسان في الحياة الدنيا كالمال والبنين والسّلطة ، ليُفرغها من مضمونها وجوهرها بحيث يتم توجيه هذا الوعظ نحو تشكيل وعي متقوقع على الذّات خائف من خوض المصير الإنسانيّ أو اكتشاف ملكاته وما أودع الله فيه من مواهب وقدرات مطلوبة منه في سبيل القدرة على تحقيق أهدافه ، ليبقى الإنسان في حالة تخبط وتِيه وضياع مستمر وشعور بالعجز والحرمان من زينة الحياة بفعل هذه التعاليم.

بهذا الوعظ المتهالك يتشكل وعي وهمي واعتقادات هدامة تسوق صاحبها نحو قناعة مغشوشة تحرمه من ممارسة حياته الطبيعية وتُزَّهده في التّقدم أو المبادرة أو تحمّل المسؤوليات ومجابهة الواقع فيفقد الإنسان القدرة على إدراك حقيقة وجوده المقدس والأخذ بزينة الحياة بالشكل الأمثل في طريقه نحو تحقيق غايات وجوده.

هذه هي لعبة الشيطان والهادفة لتيئيس الإنسان وتجريده من حقوقه ومواهبه وقدراته فيصدمه بواقع مرير حتى إذا ما فقد الثّقة بذاته وسقطت كرامته اصطدم بالدّين وعَادى أصحابه علّه يسترد شيئاً من كيانه المسلوب بفعل تراتيل هذا الدّين كما يعتقد.

لا شك بأنّ الشيطان – وبتخطيط وإصرار – يسعى لفتح عدة جبهات أمام الإنسان، وذلك لضمان إشغاله الدائم وحرف بصيرته وتشويه فطرته.

هكذا يفعل الوعّاظ الجُهّال حين يُنفّذون خطط الشيطان باحترافية، فيرسمون للناس طريقاً شاقاً ثقيلاً على النّفس لا يتفق مع الفطرة السليمة من خلال تفسيرات غريبة ومضطربة لآيات قرآنية نقية صافية وكأنهم أوصياء الله على دينه وعباده، بينما يستغل الشيطان ذلك السلوك الوعظيّ الأبويّ أفضل استغلال لاختراق الوعي والفهم السليم وتفكيكه وإضعافه ومن ثَمّ تجريمه بين العامة، في حين جاءت آيات القرآن واضحة مفهومة لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، فلا القرآن – مثلاً – يحرمك من المنصب ولا هو يُضيّق عليك طريقك نحو الكسب والغنى.

حينما يوهمك الشيطان – بوعّاظه الجهلة – بأنّ المنصب فتنة ، تجد القرآن يشجعك على حمل الأمانة وتولي القيادة وتحمّل المسؤولية.

حين يَعِدُك الشيطان – بوعّاظه الجهلة – الفقر ويُزيّنه لك وكأنّه باب من أبواب الجنّة، تجد القرآن يحضك للسعي نحو الكسب والرزق والتعفف.

ما يريده الدّين فعلاً هو تقنين وضبط السلوك والوسائل والغايات، ففي طريقك نحو الغنى يمنعك من اكتناز المال، وعند صعودك نحو قيادة النّاس يتوعدك إذا لم تعدل، وهو إذ يرشدك في تنشئة أبناءك إنما يحذرك من التّسلط والظلم.

لا شك بأنّ الشيطان – وبتخطيط وإصرار – يسعى لفتح عدة جبهات أمام الإنسان، وذلك لضمان إشغاله الدائم وحرف بصيرته وتشويه فطرته، فمن أقوى ألاعيبه محاولته بثّ العداوة والبغضاء والتّحاسد بين النّاس بطرق غاية في الخبث والمكر.

فمثلاً يُصوِّر لك الدّين وكأنّه – كُله – صلاة وصيام ودعاء بينما يُهَوّن عليك ما دون ذلك، بل يُخرِجها لك بوجه دينيّ وأعمال شرعيّة تتعبد بها لتكسب الأجر والثواب، فَتحت باب الكُره والحبّ في الله ينشر العداوة والبغضاء بين النّاس، وبحجة الولاء والبراء تَحدث القطيعة وتتراكم الأحقاد، وهذا ما يُحدثه الوعظ التّقليديّ السطحيّ المتداخل مع ألاعيب الشيطان والبعيد عن الفهم العميق لروح الدّين، بل إنّ هذا ما يحبه الشّيطان أيضاً ويرسم له دائماً.

الدين دعوة حقيقية لممارسة الحياة (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ) والتمتع بخيراتها.

يريدك أنْ تقارعه في معارك جانبية مفتوحة، بينما هو ينصب لك فخاً كبيراً مستعيناً بسذاجة أعوانه لإلباس هذه المعارك لباس القداسة، فتراه يُغريك للخوض والجدال في اللحية والموسيقى أو مجالس الذكر أو صلاة الوتر والبِدع ولربما خاض معك في السياسة والانتخابات البرلمانية واقتتال الصحابة، ليصل بك لحالة تجد فيها نفسك متشبّعاً في الدفاع عن هذا الدّين، بينما هو يمضي قُدماً نحو تأجيج الطّائفية وتزيينها بينك وبين المُخالِف وتشجيع القتل والعداوات والضغائن والأحقاد والعقوق حتى تُمسي جزءاً من ديننا وحياتنا.

إنّ فهم منطلقات الشيطان وتدبيراته أمر سهل إذا ما تبدّلت الأفهام والقناعات وتجددت الثّقافات، ولا يكون ذلك إلا بفهم عميق وتأمّل وتدبّر لآيات الكتاب ، إذْ سنجد دائماً توجيها وتركيزا مكثّفاً للنّفس والذّات نحو التّهذيب والتّزكية والتّمحيص " إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ ".

الدين دعوة حقيقية لممارسة الحياة (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ) والتمتع بخيراتها والوصول بالنفس إلى أعلى مراتب السعادة والطمأنينة والرضى ، والبداية تبدأ من النّفس للتمرد على الأمراض القلبيّة العقيمة والتّخلص منها " إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ " إذْ إنّ هذه الأمراض هي سلاح الشيطان الأنجع، وأوّلُها الكِبْر الذي هو منبع الشرور وبه أغوى الشيطان نفسه وبه سَيَغوي الإنسان، فهو فَطِن قد عَرف الداء واختبره بنفسه " قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ " ثم لتنتشر هذه الثّقافة الحميدة في المجتمع لتُشكل مناعة صلبة أمام حروب وتحرشات الشيّطان لبني آدم.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.