شعار قسم مدونات

غرباء على شواطئ البسفور

blogs - البسفور

كانت أعمق تنهيدة سمعتها في حياتي، تلك التي خرجت من صدر امرأة في العَقد السّابع من العُمُر، حسب أثلام جبهتها التي خطّتها السّنين، وهي تروي لطفلة صغيرةٍ بجانبها كيفَ كانت حياتهم في تلك القرية، والطفلة تتابع باهتمام ملامحَ الرّاوية الّتي شَرَدَ بَصرُها بعيدًا، مخترقًا الأفُـق الذي اتحدت فيه زرقة السّماء والبحر.

"بَتذَكَّرْ يا سِتِّي" كانت مفتاح الحكاية، والسِّرَّ الذي يقف خلف تعلُّق جميع الأطفال -ونحن منهم- بحكايا الجدّات، وهي ذاتها الطُّعم المُشوّق الذي كانت ترميه الجدات أمام أكثر الأحفاد شغباً، فما يلبث أن يصير حَملاً وديعاً، استقر على يد كرسيّ الجدّة، أو طيراً جارحاً استحال نورساً بريئاً، كذلك الذي كانت تخاطبه "لينة" في مسلسلٍ للرسوم المتحرّكة، كان يحوّل أكثر البيوت صخباً إلى "أرض الأمل" التي ما زلنا نبحثُ عنها إلى اليومِ.
 

ليس المؤلمُ ارتفاعُ الأجرةِ في شقّة بالغُربة، بل المؤلمُ حقًّا هو الثمنُ البخسُ الذي بيعَ به الوطن من ضمائر مأجورة.

على الطبقة العليا من سفينة النقل بين الشطرين الآسيويّ والأوروبيّ من إسطنبول، أخذت الجدّة تروي لحفيدتها ذكرياتها مع الزّعترِ والعَكّوب، وسَفرتِها مَعَ والدِها إلى القدس، وكيف كانت حياة قريتهم الفِلَسطينيّة، وأحوال الناس الذين عاشوا فيها ببركة وخير، وحدثتْها عن نومهم بعد صلاة العشاء مباشرة، ليتدخل في الرواية صوت جديد: "وكِنّا بْنِصحى مِنْ أَبْلِ الضَّيّ، نْصلِّي ونِخبِزْ وِنْسَخّنْ مَيّ" هو صوت امرأة سوريّة، أخفَتْ نِصفَ وجهها بنقابٍ أسود اللّون، ربّما شفقةً علينا من قراءة تاريخٍ أليمٍ عاشتهُ، أو خوفًا من واشٍ يتتبّع أمّاً لثلاثة شهداءَ، ذكرَتهم في معرض ردّها على الجدّة الفلسطينيّة، حين سألتها عن عائلتها.

وما كان لهذه السطور أن تُكتب، ولا لحروفها أن ترى النور، لولا عبارة اختلطت مع صوت النّوارس، على سطح هذه السفينة، وبلهجة عراقيّة أصيلة: "إِشْ قد يْريد نْدزلَه فلوس يابَا، ماكو مَطرح ثاني نْروحْ يمَّا" استحضرتُ معها كلّ صورة تتخيلونها عن العراق؛ فذلك الرّجل صمد في بلاده، وشارك في القتال ضدّ الاحتلال الامريكيّ، صامداً أبيّاً، لكنّه لم يصمد أمام الحقد الطّائفيّ، الذي أجبرهُ على هجرانِها بعد اغتيال ابنٍ، واختطافِ آخر. وهو اليومَ يعيشُ في وطنٍ مُستأجَرٍ، مكوّن من غرفتينِ وصالةٍ صغيرةٍ، لا يجدُ مأوى غيرهُ، حتى مع قيامِ مالك هذا الوطن بزيادة الأجرة. ليس المؤلمُ ارتفاعُ الأجرةِ في شقّة بالغُربة، بل المؤلمُ حقًّا هو الثمنُ البخسُ الذي بيعَ به الوطن من ضمائر مأجورة.

هذه الرّحلة القصيرة عادت بذاكرتي إلى رحلة ترفيهيّة، نظّمتها الجامعة التي نعمل فيها، إذ وقفتُ حينها مع زملاء لي: سوريّ ومغربيّ ومصريّ، نشاهد ضِفاف "البسفور" ونبثُّهُ همومنا وغربتنا، وكُنت أرى في نوارسه رسُلاً أمينة، توصل له كلّ ما يُحمّلها إياه المتنقلون بين ضِفافِه. وما شدّني في الرّحلتين، مُفارقة لطيفة، هي أنّ هذا "المَضيقَ" قد "اتّسع" كلّ هؤلاء الذين ضاقت بهم أوطانهم، وأنّ تلك الأماني التي غرقت في بحار الظلم والدّماء، تُجيدُ السِّباحة اليوم في بحار الغربة والوَحدة.
 

لله دركِ يا شواطئ البسفور، كم أغريتِ من مُغترب، وكم هدأتِ من قلبٍ مضطرب، ولله درّ نوارسكِ الأمينة، كم حملت من رسائل لركّاب السّفينة.

منذ صغري، شدّتني كلمة "الغُربة"، وأمتعتني قصص المغتربينَ، حين يقصّونها على مسامع الأصدقاء والأقرباء، في السهرات الصيفيّة المصحوبة بالشّاي والنعناع، وكنتُ أشعُر بالفضول حين أرى حقيبة شخصٍ عادَ من السّفر بعد طولِ غياب. لكنني حين صرت ذلك الشخص، وبطل تلك القصّة، وحين أصبحت حامل تلك الحقيبة وذلك الجواز المملوء بختمي "دخول" و"خروج"، أدركت جيّدا كم هي مؤلمة التفاصيل التي كانوا يخفونها عنّا من قصصهم، وكم هو صعبٌ على بطل القصّة أن يبقى محتفظًا بابتسامته، رغم كلّ ما بداخله من الألم، وتعجّبت من سلطانهم الذي منحهم القدرة على إخراج الكلام، دون مروره ببوّابة القلبِ النازفة؛ كي لا يُرى أثر الجرح في حديثهم.

لله دركِ يا شواطئ البسفور، كم أغريتِ من مُغترب، وكم هدأتِ من قلبٍ مضطرب، ولله درّ نوارسكِ الأمينة، كم حملت من رسائل لركّاب السّفينة، وآه من خيوط شمسكِ التي تغزلُ على ضفافكِ قصصاً بِلُغةٍ لم تفهمها، وتسدلُ على الأرواحِ المرتجفةِ من بردِ الغربة ستارة من دفءٍ، تخرجُ ما في الصَّدرِ من زفرات، وتسكِبُ ما في العينِ من عبَرات.
 

بالله يا شواطئ البسفور، قولي لي، هل لمحتِ تلك الطّفلة البريئة، وهِي ترمي قطع الخبزِ في مياهِكِ المالحة هذه عن روحِ أمّي.. وهذه عن روح خالي.. وهذه عن روح حمزة الخطيب.. وهذه عن روح إيمان حجّو.. وهذه عن روح البوعزيزي.. وهذه.. انتهى خبزها، وما انتهت قائمة الأسماء لديها، ولكنني أظنكِ تحفظينها كاملة، فكم سردها الغرباءُ على شواطئ البسفور!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.