شعار قسم مدونات

حلمٌ نموت دونه!

blog-قوارب

كثيرًا ما أقف أمام بعض الأدبيات القديمة نسبيًا مما خَطَّه الشُعراء وغناه من غنَّى عن مصير "الوطن".. ذلك الذي نبذل الروح من أجله و نحِّن إليه في الخُلْد، أقف فقط لأتسائَل عَمَّ يتحدَّث هؤلاء تحديدًا ؟!

تأمَّل سريعًا الشباب الجامعي خاصةً عند الاقتراب من مراحل الدراسة الأخيرة، الزهورالصغيرة المُتفتِّحَة، مُستقبل البلاد وساعدها المُعمِّر – الذي كثيرًا ما تغنَّوا به وبدوره أيضًا – ، وتأمَّل ما يدور من أحاديث عن الخطط القادمة، لن تلقى أي وجود للوطن .. الحديث عن السفر في كل مكان.

يبدو أن الواقع كفيل بتقسية القلوب فعلاً، وواقعنا لم يتحمَّل كل هذا الزخم العاطفي تجاه كيان غامض لم يرى شبابه أنه أعطاهم ما يستحق هذا القدر من التمجيد.

صفحات مُختصَّة على مواقع التواصل تم إنشائها فقط للمِنَح الدراسية المُختلفة وتفاصيلها والمُفاضلة بينها، إذا أردت إطلاق دعاية جيدة لدورة تدريبية في مجال ما يمكنك فقط القَول أنها "ستُساعدك على السفر إلى الخارج"، و بالتأكيد يجب أن تبدأ منذ الآن في تطوير مهاراتك إلى جانب شهادتك الجامعية المُنتظَرة فهي لا تكفي وحدها لطبيعة تعليمنا المُنهار..

عيون على أوروبا، وأخرى على كندا، وثالثة على اليابان، و أخرى أقل على دول الخليج .. الكل يريد الخروج، الكل يريد الهرب! .. كالفرار من طاعون ما، أو القفز من شرفة منزل تأكله النار، كاللجوء إلى قارب من مدينة غمرتها المياه وشارفت على الغرق .. قارب مُتهالِك لهجرة غير شرعية!

نعم .. الحُلم جماعي شامل، لا يقتصر فقط على فِئة المُتعلِّمين أو ذوي الشهادات الجامعية، إن مَثار الدهشة يكمُن في الأعداد المتزايدة بصمود مُرعِب للمُسافرين – أو قُل الهاربين- بتلك الطريقة رغم كل الأخطار المُحيطة بها والتي يدركونها مُسبقًا.

23 سبتمبر 2016 ليست المرة الأولى ولن تكون الأخيرة، الأمر يحدث بشكل متكرر يَصعُب على التصديق! هذا الإصرار الغريب على خوض التجربة رغم الوعي بكل الكوراث التي ستحدث في حالة الفشل، سيجعلك تتساءل مرارًا عن ماهية هذا الوطن الذي يختار أفراده الموت المُحتمَل بدلاً من الحياة التي استحالت فيه حتى صارت مُرادفًا للموت المحتوم!

لا يَخفى على أحد أن الأخبارعن غرق تلك المراكب أصبحت "روتينية" بالنسبة لنا إن صَح التعبير، يتبعها نوع من الحُزن الروتيني كذلك، دُفعة أُخرى غرقت في طريقها للحلم المُقدَّس المُتعلِّق بالثراء والحياة الآدمية الكريمة.. كل التحذيرات، كل الأشعار المُنمقة، لن تُجدي شيئًا أمام طُغيان الحلم وقسوة الواقع.

يعود التساؤل الأول مجددًا بإلحاح.. أين هو الوطن الذي رآه هؤلاء ليكتبوا ما كتبوا ويقولوا ما قالوا؟! هذا الرسم البلاغي المُتقن في الأشعار والتَفنن في هندسة الكلمات وتنميقها ببراعة لترتجف لها قلوب السامعين وتقشعر الأبدان، صار الآن مادة خصبة للسخرية ومَحط تندُّر الشباب وحتى أطفال المدارس عندما يدرسونها كنصوص في مُقرراتهم!.

فهل عاشوا في مكان آخر؟ أو ربما شهدوا ظروفًا أفضل كما يُقال أحيانًا؟ أم أنها كانت نوعا من الدروشة العاطفية المُعتادة من التغنِّي بالأرض والتُراب وذكريات الأحباب والأماكن؟.. هل قلتُ دروشة؟.

يبدو أن الواقع كفيل بتقسية القلوب فعلاً، وواقعنا لم يتحمَّل كل هذا الزخم العاطفي تجاه كيان غامض لم يرى شبابه أنه أعطاهم ما يستحق هذا القدر من التمجيد، وتُمنَح فيه الحقوق – لو مُنِحَت!- مِنحَة العَطيَّة والفَضل، ليُطلَب منهم بعدها أن يشكروه على كرمه البالغ!.

وطنكم يحلم بالفرار من (وطنه) أملاً في وطنٍ آخر أفضل، حتى ولو كان فراره إلى الموت نفسه.

ثم تأتي فئة من المُتغنين أيضًا لا يعرفون عن الوطن غير تُرابه وأرضه، يكونون في الغالب من أجيال سابقة وفي أحيان قليلة من غير ذلك، يتهِّمون هذا الجيل بالجحود وعدم الانتماء ونكران الجميل.

– أي جميل؟!! – .. لا يحضرني هنا سوى "مطر"، أنْ:
"من بعدنا يبقى التراب والعفن ..
نحن الوطن!
من بعدنا تبقى الدواب والدمن..
نحن الوطن! ..
إن لم يكن بنا كريماً آمنًا
ولم يكن مُحترمًا
ولم يكُن حُرًا ..
فلا عِشنا ولا عاش والوطن !"

ووطنكم – يا سيدي- على هذا الفهم مُنهَك، يائِس، مُستنزَف حتى النُخاع .. وطنكم يحلم بالفرار من (وطنه) أملاً في وطنٍ آخر أفضل، حتى ولو كان فراره إلى الموت نفسه، كل أشعاركم غير مُجدية أمام مادية الواقع .. سيستمر الحلم بإستمرار الحال، جارًا معه المزيد من المراكب، المزيد من المُتطلّعين للخروج، والمزيد من تساؤلاتنا.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.