شعار قسم مدونات

بين المُقامِ والرّحيل

blogs- الرحيل

نظن أنّ الأيام قد تصنع الفرق، لكن لا شيء يتغير.. ندخل في دوّامة الحياة علّنا نغرق وأنفسنا فيها، كي ننسى ما نفكّر فيه ونصبو إليه.. ليس تماماً، ولكن البُعدُ قليلاً، فكثرة التفكير متعبة!

يُتمٌ وعاصفةٌ تدورُ في الروح، ولا تزيدها المناسبات سوى امتداداً في الجذور.. في لحظة ما، تظن أنّ الأمر مجرّد ذِكرى عابرة، ستجعلها الأيام تزول، أو أنّ ما حولك يجعلها شيئاً من لا شيء..
هل يحنّ المرء لشيءٍ لم يعشه؟ وهل يطمح إلى طريق لم يَعهده؟

هاجر الرسول صلى الله عليه وسلم من مكةَ حزيناً متألماً لفراق أحبّ البلادِ إليه، ولكن في المقابل حين أسس دولة المدينة الطيّبة واستحكمت قوّة الإسلام فيها، قرر البقاء والمكوث والوفاة والدفن فيها..

لم تستطع دولٌ ذهبت إليها أن تُنسيني حنيني الأول، ولم يَزدني أَلقُ تلك الدول إلّا ارتباطاً لها، لأعود إليها وأبنيها من جديد ..سوريّةُ الشريان النابض فيّ، وشَربةُ الماءِ التي سرت بي منذ نشوئي.. هل كان والدايَ يصنعان فيّ هذا الجينَ لينمو دون أن أشعر؟
 

مخيفةٌ هي الحياة، حين ترى بعد عقودٍ من عمرك أنك لم تكن تعيشُ لأجلك، وأنّ حلمك الذي سعيت إليه وفيه طيلة السنين الماضيات محض كذبة وشيء لم يشبهك يوماً .. وأن حلمك الطريدَ الشريدَ تحطّم عند لقاء أول كومةِ مترامية على جانب الطريق من بقيّة مبنىً دمّرته قذيفة !
 

لا أنكر، ولا أستطيع أبداً أن أُنكر، أنّ صمود الباقيين في الداخل هم شُعلةٌ لصمودنا.. هم أملنا المتوقدُ دوماً، بأنّ هذا النور في داخلي والذي أُداريه سيخرج يوماً ما، وأنّ احتمال لوعاته بين كلّ حينٍ لها أمدٌ وانقضاء..
 

ماتَ بعضٌ من صحابةِ رسول الله صلى الله عليه وسلّم وهم لم يحظوا بعدُ بأي إشراقة أملٍ بخصوص الدعوة، بل كانت الدعوة سرية بعد، ومع ذلك قضوا نحبهم بما أحبّوا ولو كانت لحظة من حريّة وكرامة، وبأننا نلنا ما نبحث عنه، والآخرة تتمة ذلك.
 

هاجر الرسول صلى الله عليه وسلم من مكةَ حزيناً متألماً لفراق أحبّ البلادِ إليه، ولكن في المقابل حين أسس دولة المدينة الطيّبة واستحكمت قوّة الإسلام فيها، قرر البقاء والمكوث والوفاة والدفن فيها.. وقال عليه الصلاة والسلام: "لو سلكَ الناسُ واديًا ، وسلكَتِ الأنصارُ شِعبًا ، لأخذتُ شِعبَ الأنصارِ ".

الوطن فينا حيث نكون .. ونحاول أن نكون فيه حيث نكون، والأرض لله يورثها من يشاء من عباده.

يعود الأمل رغم كل هذا الكلام لأول سطرٍ وكلمة في الفقرات هنا.. ومهما تعددت مشارب المرء يبقى له مَشربٌ دونَ آخر.. فماذا يكون لو آثر الجميع البقاء؟ وماذا لو آثر الجميع الرحيل؟ وماذا لو ثبت الجميع؟ وكيف تكون الحياة لو فُتِنَ الجميع أيضاً؟

هي حِكمة الله التي لا بَراح عنها.. وهي قضاؤه الماضي فينا.. وهي البذرة التي أعطانا إيّاها، فأين نغرسها؟ وكيف؟ وما رأيك لو جربت أن تغرسها وتقطف منها ثماراً تأخذ بذورها لتضعها في أماكن أخرى ؟!

ما قيمة الحياة إن كانت تسير وفق نسقٍ واحد؟.. وما قيمة الغريزة فينا إن لم "تقرصنا" كل حينٍ لتذكرنا بنا؟ وما قيمتنا نحن أمام أنفسنا إن لم تكن أنفسنا أنفسنا بحجة كذا وكذا؟ حينها، لا قيمة للحياة!

الوطن فينا حيث نكون .. ونحاول أن نكون فيه حيث نكون، والأرض لله يورثها من يشاء من عباده.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.