شعار قسم مدونات

قصور اللغة العربية أم تقصير أهلها؟ (الجزائر مثلا)

blogs - arabic language
كلما عظم حجم المغالطات العقلية والمزايدات الفلسفية في التحجج لمسألة معينة كلما سهل تمريرها على أذهان العامة، وكلما سهل بالمقابل نقضها بالعودة إلى أساليب منطقية من طرف الخاصة وأهل المجال وأصحاب الخبرة. الضجة حول لغة تدريس المواد العلمية في الجزائر عينة من هذا التوجه العام.

لقد نبغ العلماء العرب كابن سينا وابن رشد وابن النفيس والبتاني وابن حيان والرازي والخوارزمي في علوم الطب والصيدلة والفلك والكيمياء والجبر والهندسة وسبقوا لاكتشاف المفاهيم وابتكار المناهج العلمية ودونوها باللغة العربية. وعلى هذا الصرح بنى الغرب كثيرا من علومهم الحديثة، كما يعترفون بالسبق لأهله بإطلاق الأسماء العربية على بعض الفروع العلمية التي سبق إليها العرب أو أسسوا لها كالجبر والخوارزميات والكيمياء، ويطلقون أسماء علماء عرب على بعض مؤسساتهم كمستشفى ابن سينا الجامعي في ضاحية بوبيني المتاخمة لباريس.

لكن كيف يمكن أصلا إثبات أن سبب ارتفاع نسب الرسوب في السنة الأولى الجامعية في الفروع العلمية هو قطعا و حصرا عائق اللغة (الفرنسية)؟

أرجعت منذ فترة وجيزة وزيرة التربية الجزائرية السيدة نورية بن غبريط المحسوبة على التوجه الفرنكوفيلي السبب في ارتفاع نسب رسوب طلاب السنة الأولى الجامعية في الفروع العلمية لاستعمال اللغة العربية في تدريس هذه المواد، لأن الطلاب على حد وصفها تعودوا على مناهج معربة في مختلف الأطوار التعليمية ليجدوا أنفسهم أمام مناهج جامعية علمية باللغة الفرنسية، مما يعرقل تحصيلهم ويتسبب في رسوبهم. لهذا وجب فرنسة المواد العلمية منذ الأطوار التعليمية الأولى حتى يتهيأ الطلاب مبكرا لمجابهة التحدي اللغوي الذي ينتظرهم، ويقتربون في نفس الوقت من المستوى الدولي.

لو سلمنا جدلا بأن العامل اللغوي فعلا سبب رئيسي في المشكلة فطرح الوزيرة يقصي الحل المقابل الذي تنتهجه معظم الدول ذات المكانة العلمية المحترمة في العالم بترجمة العلوم إلى لغتها في كل الأطوار بما فيها المرحلة الجامعية حتى لا يقع الطلاب في هوة لغوية خلال المرحلة الأخيرة.

لكن كيف يمكن أصلا إثبات أن سبب ارتفاع نسب الرسوب في السنة الأولى الجامعية في الفروع العلمية هو قطعا و حصرا عائق اللغة (الفرنسية)؟ أليس منهجية التحصيل الجامعي أهم من اللغة ذاتها، فالأولى لا يستغني عنها طالب في العالم مهما كانت لغته وتخصصه، وهي مفتقدة عند كثير ممن يرسبون في السنة الأولى الجامعية، فاللغة فرع عن المشكلة، لا أصلها. وما يقال في هذا الشأن كلام عام لا تسنده أي بحوث علمية تجريبية حول المنظومتين التربوية والجامعية الجزائرية.

وإن كان هنالك مراجع علمية محكمة ومسندة من رسائل ماجيستير وأطروحات دكتوراه في علوم التربية أو اللغة تطرقت إلى المشكلة، أو إحصائيات رسمية شفافة تدعم هذا الطرح لتحجج به داعموه ولكانت معروفة لدى الخبراء الرافضين لهذا التوجه فيسلموا بمشروعيته. فلما لا تقدم الوزارة أسانيدها العلمية والواقعية علنا للفحص والتمحيص من طرف أهل الاختصاص فتريح منتقديها وتستريح هي ذاتها؟

أن يكون عائق اللغة هو السبب الرئيسي في الرسوب وضعف المستوى فهذه مغالطة لا تسندها الوقائع ولا التجارب. وإن حدث هذا لفئة معينة محصورة فالحل إن لم يكن تعريب العلوم مواصلة للجهود التي شملت الأطوار الأولى من التعليم، وامتثالا لنص الدستور الذي يكرس العربية كلغة رسمية سيادية للدولة، فليكن جزئيا لكل طالب على حسب حاجته وظرفيا لحين تعريب العلوم في المرحلة الجامعية، وليس بفرنسة المنظومة التربوية كلها في شقها العلمي.

كل الجامعات العالمية تمنح فترة تقوية لغوية تمتد من أسابيع لأشهر على حسب مستوى كل واحد ممن ينتسبون إلى برامجها في أي فرع كان ذلك. قد يكون التدريب سابقا تماما للتكوين في التخصص وقد يكون بالموازاة في شكل دروس مسائية بحسب الحاجة والمستوى المفروض من الجامعة.

إذا اعتبرنا أنا الفرنسية لا بديل عنها في المواد العلمية فأولى تقوية مستوى الطلاب الذين يحتاجون دعما لغويا في الفرنسية كأنهم سافروا ليدرسوا في فرنسا. وهذا التوجه على أية حال أمر غريب بالنظر إلى واقع فرنسا التي يعتبر مستوى تلاميذها في الرياضيات من الأضعف بين الدول الأكثر تطورا في العالم والمنضوية تحت لواء منظمة التعاون الاقتصادي والاجتماعي بحسب دراسات الأخيرة، كما أن تحكم التلاميذ الفرنسيين أنفسهم في فنون لغتهم الأم في انحدار جنوني بحسب دراسات علنية، خاصة مع هيمنة وسائل التواصل الحديثة التي تعوّدهم على الخمول.

بخصوص فرنسة مناهج العلوم لمواكبة المستوى الدولي، فإن كان الهدف المزعوم (المضحك المبكي) جعل مستوى طلاب الثانوي دوليا، علما أن الناذر منهم سيتوجه لغير الجامعة الجزائرية بُعيد الباكالوريا مباشرة، فاللغة الفرنسية أصبحت مبتذلة في الساحة الدولية، محصورة في خم فرنسا وبلجيكا وسويسرا وكيبيك فضلا عن دول المغرب العربي والساحل والغرب الإفريقي، فأي تدويل للمستوى هذا الذي يُتحدث عنه إن لم تكن الإنجليزية هي لغته؟ كما يقول الشاعر "ولم أرى في عيوب الناس شيئا كنقص القادرين على التمام".

موقفي بعيد كل البعد عن التعصب للغة العربية بذاتها، لكنه شهادة تجربتي الشخصية، بل أني لم أدرك قدرتها الخارقة على التطور واستيعاب الحداثة موازاة مع بلاغتها وسحرها الأدبي

ثم كيف لمنظومة تربوية عجزت في توفير أساتذة لغة (فرنسية أو إنجليزية) ذوي كفاءة بيداغوجية أي (القدرة على التلقين للتلاميذ) حتى في قلب المدن الكبرى لتدريسها كلغة وآداب، كيف لها أن توفر أساتذة لغة أجنبية في دوائر وبلديات الجزائر العميقة، فضلا عن أساتذة يتقنون فنونهم وعلومهم، وفي نفس الوقت اللغة الفرنسية وكذا البيداغوجيا؟ هذا كان موجودا في جيل أباءنا وأساتذتنا وهو يشارف على الانقراض تماما.

أما بخصوص استعمال اللغة الإنجليزية في العلوم، حتى وإن كانت لغة دولية، فالصين تدرس مناهج العلوم بالصينية، والهند بالهندية، وكوريا بالكورية، واليابان باليابانية، والسويد بالسويدية، وألمانيا بالألمانية، وحتى فرنسا بالفرنسية! مع ذلك فهذه دول معروفة بمستوى تعليمها الممتاز كالسويد إلى المتوسط كفرنسا.

فحاصل الأمر أن الزعم بفرنسة المواد العلمية في أطوار التعليم الأولى في المنظومة التربوية الجزائرية كحل لظاهرة الرسوب في السنة الأولى الجامعية ولمواكبة المستوى الدولي هو ضرب من ضروب العجز والانهزامية وقلة النظر وضعف الاستشراف. أولى من ذلك هو تقوية اللغة الوطنية (كما في كل البلدان) بتعريب العلوم ورفع مستوى الطلاب في اللغات إلى حين تعريب ما تبقى من مناهج. وإن كان لا بد من تدريس العلوم بلغة أجنبية فالإنجليزية أولى من غيرها بالإتقان لما تحتل من مكانة ولما تتيح من مواكبة لأحدث الاكتشافات العلمية.

موقفي بعيد كل البعد عن التعصب للغة العربية بذاتها، لكنه شهادة تجربتي الشخصية، بل أني لم أدرك قدرتها الخارقة على التطور واستيعاب الحداثة موازاة مع بلاغتها وسحرها الأدبي إلا بعد أن غصت في أعماق بعض ضرائرها. لقد درست الرياضيات والفيزياء والكيمياء باللغة العربية في المرحلة الثانوية، وكذا في الجذع المشترك للهندسة بالجامعة في الجزائر، يضاف إليها مواد الخوارزميات والتحليل العددي (رياضيات وحوسبة) ومقاومة المواد (فيزياء وهندسة) والرسم الصناعي كلها بالعربية، ولم يطرح استعمال اللغة الفرنسية حصريا في مرحلة التخصص مشكلا لي ولا لأحد من زملاء دفعتي الأقل إلماما باللغة الفرنسية.

كما أني حاصل على ماجيستير في اللغويات الإنجليزية، وعملت في الجامعة كمعيد لمادة المصطلحات العلمية إنجليزي/عربي لطلاب الهندسة في سنتهم الجامعية الأولى دون أدنى وساطة للغة الفرنسية، ولم ألقى من الطلاب إلا الترحيب بدراسة اللغة الإنجليزية التي أدخلها المعهد في المقرر بمبادرة فردية مني.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.