شعار قسم مدونات

عمّان.. وسط البلد

blogs - amman

كان لهذه المدونة موضوع مختلف تماما غير أنّ لوطئة الجمال في الروح وقعٌ لا يردّ.. فمنذ أيام كنت في جولة حرّة وسط البلد وحيث أن حرفتي التقاط الصور ليس عبر "القمرة " بالطبع ولكن من خلال ناظريّ الذي وُهبت! كانت هذه المدونة عن عمان هذه المدينة التي لا تهدأ ولا تنام، تتسع كما الكون امتدادا.. وتضيء كما النجم اشتعالاً.
عمان المدينة الواعدة.. المدينة الملهِمة .
 

بدأت جولتي بركوب الحافلة "الباص الكبير " والذي يمر قاطعا تلك الشوارع الضيّقة وسط البلد، ولست أذكر متى جلست هكذا باسترخاء لأنظر عبر النافذة، فالجلوس خلف المقود جيئة ورواحا بشكل يومي في مدينة باتت الأكثر ازدحاما بين المدن العربية، أمر يحول دون الاستمتاع بما تطلّ عليه نافذتي. ولكن هذه المرة حظيت بإطلالة مختلفة في الحافلة،دون عبء القيادة، فجلست كطفلة في مقعد استأثرت به لي وحدي "جهة الشباك " أتأمل.. بل وأنصت.
 

في عمان تلتقي كل الحضارات واللغات وكأنّ عمّان المدينة شرفة الماضي والحاضر والمستقبل تتزاحم كل مدن العالم فيها دون أن تضيق. 

وسط البلد يعني البيوت القديمة بل القصور القديمة، الزوايا العتيقة والفنادق التي يضيق مدخلها حتى تعتلي قمتها كما الجبال تماما، يعني الأنتيكا النحاسيات المطرزات، والعصائر! وسط البلد حيث الناس تزدحم وتتراصّ وتهرول، حيث البيوت المعلّقة المكدّسة من كل الجهات فوق الجبال تحدّق بك ..يتوسطها "المدرج الروماني "وكأنه قد تملّك موقعه للتو ! فلا تجد فارق بينه وبين البيوت المترامية حواليه، بينه وبين الجبال التي تحيط به..! كيف يندمج عهد بهذا القدر من القدم بعهد بهذا القدر من التحضّر.. دون اي خلل.. إنها عمّان !
 

كل زاوية من تلك المدينة ضربة ريشة في لوحة و سطر في حكاية ..من أي الجهات نظرت ..فلو اتخذت مكانا في الأعلى من جبل "الأشرفية "أو "القلعة" أو "التاج" ستجد زوايا مخفيّة تطلّ على سفح تلك المدينة باحتراف لا يضاهيه احتراف ..مشهد ينتظر لحظة اقتناص بارعة من مصور يحبسه أو روائي يقصّه .. ولو اتخذت مكانا هناك في الأسفل وحدّقت نحو الأعلى ..لاكتمل لديك المشهد ..وتمّت أسطر الرواية!
 

المقاهي في الطوابق العليا من الأبنية تدلّك عليها بأضوائها المتقدّة، تظلل الجزء القريب من رصيف الشارع بلكوناتها المعلقة، منحوتة باستدارة هندسية لافتة، السلالم الطويلة جدا الملونة أحيانا،المتكسرة أحيانا، الحجارة المتعبة من كثرة المارّة، المعشّقة بلمسات أكفهم الدافئة، واتكاءات أكتافهم المنهكة، النوافذ ذات الزجاج القديم المغبّش أو المؤطّر بالأرابسك، المقاعد الخشبية العتيقة الطراز، اللافتات الصدئة حيث سوق "البخارية" أو سوق "مانكو "، الأروقة الضيقة جدا والتي تفصل بين محالّ ذات مساحة صغيرة جدا بالكاد تتسع للبائع وبضاعته المكتنزة المصفطة بعضها فوق البعض.
 

قد ترى اثناء عبورك كهل رث الثياب يستلقي ممدا دون حراك كمن أسلم روحه للمكان كدّا،و عجوز تجعدّت ملامح وجهها بشدّة، وتهدّلت ملابسها بوهن، تحصي ما بيدها من نقود، تقدمها للبائع بتثاقل وكأنها آخر ما تبقى لها منها،وقد ترى طابور من نساء ورجال وأطفال يصطفون بانتظام شديد أمام محل صغير جدا في رواق ضيّق جدا لتناول "الكنافة.
 

"بسطات " من كتب، ألعاب أطفال ملابس أو حتى أحذية تحتل جزءا كبير من الرصيف تضطرك للسير متعرجا يمنة ويسرة اتقاء دوسها، وحرفيّ زجاجات الرمل عند المنعطف..يتحلق حوله المارة يسدون الطريق أمامك، يراقبون بفضول كيف يدق الرمل من خلف الزجاج حبةّ حبة حتى تمتليء، يغلقها جيدا لك، لتحتفظ بها..وتحملها معك ..فلكلّ حبة رمل لون ولكل لون ..قصة وعاشق !
 

 لو حدث وزرت عمّان فلا تغادرها قبل أن تذهب في جولة، تذوّق طعامها،  وعاشر أهلها، وخذ قنينة رمل ملوّن فلكلّ حبة .. قصة وعاشق ..لعمّان.

في وسط البلد.. في عمّان لن تسمع لغة أو لهجة واحدة بل ستسمع لغات ولهجات متعددة، فأنت أردني ومصري وفلسطيني وسوري إفريقي مغربي شرق آسيوي وأوروبي.. ففي عمان تلتقي كل الحضارات واللغات وكأنّ عمّان المدينة شرفة الماضي والحاضر والمستقبل تتزاحم كل مدن العالم فيها دون أن تضيق بل لكأنّها تتسع اطرادا.. وتزيد.
 

في عمان وسط البلد.. لن تفوتك الصلاة، ولا حجة لديك فهناك جامع كبير، قريب جدا من بعض الآثار المترامية المرممة، ساحة تمتد أمامه ومدخلين واحد للنساء حيث دخلت، وآخر للرجال حيث تلصصت!
 

ففي الأعلى حيث النساء تصلي،وحيث السقف تتدلى منه تقوسات منخفضة وكأنها تجبرنا على الانحناء إجلالا للمكان، هناك نوافذ تطل على مدخل الرجال، حيث تتوسطه بركة بيضاوية صغيرة مزججة من حواليها، تتراقص في منتصفها نافورة ماء شديد الصفاء ببحراتها الثلاث، تترامى أصص النباتات تحيط بها كحزام مطرّز، تشعرك وكأنك في قصر أندلسي الطابع ..ولا يخلو الأمر من رجل يتمدد هنا أو اثنين يجلسان هناك، وآخر يحمل عصا الجوال يحاول أن يلتقط صورة له ولطفله ..بحداثة فجّة!
 

تزدان الشوارع على عرضها وسط البلد بزينة من مصابيح ملونة كرمال الحرفيّ، تخبر أن عيدا مرّ من هنا أو شهر مبارك حلّ ذات مرّة ..المعطرات والأعشاب والأقمشة والصاغة كلها تجمعات مألوفة ولها مكانها ومحلّ إقامتها هناك، الحياة كلها تجمّعت بانتظام يشوبه فوضى أخّاذة ساحرة، لو حدث وزرت عمّان -وظنّي أنك فعلت أو ستفعل-.. فلا تغادرها قبل أن تركن سيارتك، وتضع حقائبك، وتدع جوّالك أو هاتفك الذكي، وتذهب في جولة حرّة، تذوّق طعامها، واشرب ماءها، وعاشر أهلها، وخذ قنينة رمل ملوّن فلكلّ حبة.. قصة وعاشق ..لعمّان .

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.