شعار قسم مدونات

الجاهلية الحديثة

blogs - oasis

مع كافةِ التطورات التي وَصلنا لها في العديدِ مِن المجالات؛ إلا أنّهُ ما زال بعضنا يعيشُ في زمنِ الجاهليّة ولا أُبالغُ في ذلك، وأرى أن يُسمى ذلك الزمن بِاسمِ (الجاهليّة الحديثة)، والتي انتشرتْ مَظاهِرُها بشكلٍ كبيرٍ بين العديد مِن الناس الذين يَتَمسكُونَ بِمجموعةٍ مِن الآراء، والأفكار التي تدلُّ على عدمِ تقبلهم لأفكارِ غيرهم، ويَجِدونَ في رفضِها انتصاراً للجاهليّة الحديثة.

إنَّ الجاهليّةَ الحديثة التي تنتشِرُ في المُجتمعاتِ العربيّة مُختلفةٌ عن نظريات الجاهليّة التي ظهرتْ في القرنِ العشرين، فترتبطُ هذه الجاهليّةُ بمجموعةٍ مِن الموروثات الاجتماعيّة التي تحولتْ عند أغلبِ الأشخاص إلى ثوابتٍ لا يُمكنُ تغييرها، أو الجدالُ فيها، أو التفكيرُ بتطويرها؛ لأن كل ذلك يُؤدي إلى تغييرٍ بالمنظومةِ الاجتماعيّة كما يراها أُولئكَ الأشخاصُ مِنْ وجهةِ نظرهم.

يؤثرُ الجهلُ الفكري على العديدِ مِنَ الأفراد مهما كان مستواهم التعليميّ، أو مخزونهم الثقافيّ.

تظهرُ الجاهليّة الحديثة ضِمنَ مفهوم الجهل الفكري؛ وهو عدمُ التحرر مِن التقاليدِ الثقافيّة الخاطئة، والتي تصبحُ جُزءاً لا يتجزأُ مِن المُوروثات الاجتماعيّة، ولا يتمُّ السعي لاستبدالها بمفاهيمٍ ثقافيّة أكثر وعياً، واستيعاباً للبيئةِ الحضاريّة الحديثة التي تحرصُ في مُعظمِ مجالاتها على عدمِ مُخالفةِ القواعد الدينيّة والأخلاقيّة. 

يؤثرُ الجهلُ الفكري على العديدِ مِنَ الأفراد مهما كان مستواهم التعليميّ، أو مخزونهم الثقافيّ، أو وعيهم في طبيعةِ الحياة المُحيطة بهم، والتي تَحتاجُ إلى وجودِ عقليةٍ قادرةٍ على الاستفادةِ مِن الوعي الفكري الذي ساهم في بناءِ الحضارة الإنسانيّة منذُ القِدم.

كثيرةٌ هي الأمثلةُ التي ترتبطُ بالجاهليةِ الحديثة باعتبارها باتت تدلُّ على مدى غيابِ الثقافة الفكريّة الصحيحة التي اعتمدتْ على الانفتاح العقليّ، وتقبل التطور الحضاريّ، والمعرفيّ، والاجتماعيّ فانعكستْ نتائجُ كل ذلك على العديدِ مِن مجالات الحياة، ولكن لم يتقبلها بعضُ الناس؛ لأنها ببساطةٍ لا تتوافقُ مع الثوابتِ الخاصة بهم، ومِن الأمثلة حول الجاهليّة الحديثة:

(الخجلُ من اسم الأم)؛ وهو الذي جعل تفكير بعض الأشخاصِ محصوراً ضمن حدودٍ ضيقةٍ تشيرُ إلى أنّ اسمَ الأم مُخجِلٌ، وأي تفصيلٍ يُذكرُ عن الأم هو عيبٌ بِكُلِّ معنى الكلمة، وينتشرُ هذا النوعُ من الخجلِ بين الذكور أكثر من الإناث، وخصوصًا بين طلاب المدارس الذين يتجنبونَ ذِكْر أسماء أُمهاتهم أمام زملائهم خوفًا، وخجلاً منهم، وكأن اسم الأم ليس إلا عاراً على الإنسان يجبُ أنّ يُواريه عن الناس، ويحرص على المُحافظةِ عليه بعيداً عن العَلنْ ليُصبح نوعاً مِن أنواع الخجل، وصورةً مِن صورِ الجاهليّة الحديثة.

إنَّ القضاءَ على الجاهليّةِ الحديثة يعتمدُ على إنهاءِ تأثير الجهل الفكري على المُجتمعات، والاستفادة مِن التجارب الفكريّة الواعية.

ومِن الأمثلة الأخرى حول الجاهليّة الحديثة؛ (تجنبُ كتابة اسم العروس في بطاقةِ الدعوة لحفل الزفاف)، ولا يختلفُ هذا المثال عن سابقِه من الخجلِ، والعيب من ذِكْرِ اسم العروس عند أَغلبِ العائلات التي يحرصُ أفرادُها على إخفاءِ اسم ابنتِهم مِنْ بطاقاتِ الدعوة لحفل زِفَافها، والذي يُستبدلُ بألقابٍ مثل: كريمتِه، وأميرتِه، وجوهرتِه، وحبيبتِه، وغيرها مِن الألقابِ الأًخرى التي تساعدُ على جعلِ اسم العروس طيَّ الكِتمان حتى يظلَّ سِرًا لا يعرفُهُ إلا القليلُ مِن الناس.

المثالان السابقان هما مِنْ أكثر صور الجاهليّة الحديثة انتشاراً بين الناس، بل وأكثرها تأثيراً عليهم، وأتعجبُ مِن ذلك الجهلِ الذي يَرتَبِطُ بالمرأة تحديدًا !، وأُفكرُ بِمَجموعةٍ مِنَ الأسئلة التي أبحثُ عن إجاباتٍ لها، مثل: هل اسم المرأة عيبٌ ؟، والكثيرُ من السيدات العربيّات لهن تأثيرٌ واضحٌ في مسار التاريخ العربيّ، وهل اسم المرأة شيءٌ يدعو للخجل ؟، والعديدُ من نساءِ العَرب ساهمن في نهوضِ الحضارة العربيّة، وهل اسم المرأة عارٌ ؟؛ وهي الوالدة، والزوجة، والأخت، والابنة.

إنَّ القضاءَ على الجاهليّةِ الحديثة يعتمدُ على إنهاءِ تأثير الجهل الفكري على المُجتمعات، والاستفادة مِن التجارب الفكريّة الواعية التي ساهمتْ في التأسيسِ لمنهاجٍ فكريٍ واعٍ وقابلٍ للتطبيق، وخصوصاً مع التطورات الحديثة التي تتطلبُ من الإنسان أن يتخلصَ مِن قُشُورِ الجهل الفكري، ويَخرجَ بِعقليةٍ أكثر قُدرةٍ على تفهمِ الواقع، ويساهمُ ذلك في التخلصِ نهائياً مِن ملامح الجاهليّة الحديثة التي شوهتْ الفكر العربيّ والثقافة العربيّة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.