شعار قسم مدونات

أي عودة إلى الذات؟

blogs - ali shariati
في كتابه العودة إلى الذات، تعرض علي شريعتي إلى ثورة اللحى التي قام بها بيتر رومانوف قيصر روسيا الخامس، بعد أن تلقى تعليمه في هولندا، ورأى هنالك تمظهر الحضارة في حلق الناس للحاهم، وكيف تبدو وجوههم نظيفة وأنيقة من اللحى الكثة والقبيحة، والتي تعبر عن المشهد الرجعي بكل تمثلاته الثقافية والاجتماعية!

ثم يقرر علي شريعتي أن الاكسندر عندما عاد إلى روسيا، في العام قام بحملة كاسحة على اللحى، لم تقد لا للتقدم ولا للتحضر، بل يقول ساخرا: "ربما قادت بزيادة سوق الشركات الهولندية التي تبيع موسي الحلاقة "!

إن عودة علي شريعتي للذات هي عودة للآخر في لباس الذات! فهو يأتي لذاته معبأ بالأفكار الكبرى التي استقاها من كلية مجد الوجودية وسارتر والكوايج دي فرانس

وإذا كان علي شريعتي يقرر أنه رفيق في الروح والنضال مع فرانز فانون وايما سيزار، لكن على الجميع أن يفترقوا ويعود كل واحد منهم إلى منزله، إلى ذاته وهويته الثقافية! فالذات تمثل تفردا عميقا للتاريخ، ومن ثم لا يوجد مجتمع وإنما مجتمعات! ولا توجد ثقافة وإنما ثقافات! ويسرد في كتابه (العودة إلى الذات) مشهد المثقف والمفكر وهو يحمل حقيبته عائدا إلى تراثه وثقافته، معتزا بها ومتمسكا بهويته وتاريخه وتاريخ أجداده الذي امتزج بتراب الأرض، وبرموز التقدم والنضال والعقل في المحمول الثقافي للمجتمع، فلا ينفصل عنه ويقع في فخ التغريب، فيصبح كومبارس في مسرحية عبثية تقودها البرجوازية في صورتها الثقافية، مثل استرجون فلاديمير في مسرحية "انتظار غودو" العبثية!

ولكن أي عودة للذات يقررها علي شريعتي؟ هل يقصد أن ننطلق من عمقنا الثقافي في مسيرة النضال والتحرر! ولكن يقع علي شريعتي في فخ التلفيق، الذي يخرج التراث من سياقه حتى يبرر لموضوعية الآخر الذي يدعي أنه يرغب في مفارقته وهو في طريقه للذات! فيرى في أبو ذر الغفاري نموذج للاشتراكية ورفض جبروت الإقطاع! وفي سلمان الفارسي طريق الإنسانية والانقلاب على فكرة الهوية الضيقة، وفي الحسين بن علي نموذج الثورة على الديكتاتورية الشمولية، وفي جندب بن جنادة قائدا ثوريا بعد أن كان قاطع طريق وهلم جرا!

إن عودة علي شريعتي للذات هي عودة للآخر في لباس الذات! فهو يأتي لذاته معبأ بالأفكار الكبرى التي استقاها من كلية مجد الوجودية وسارتر والكوايج دي فرانس في جامعة السوربون، من ثم يقوم بتلفيق الآخر مع ثوب الذات، لكي يخلق المشروعية للاستنارة من داخل عباءة الذات!

فعلي شريعتي يرغب في تلك الروح الإيمانية المتفجرة والحرارة الدافئة للعقيدة التي تقود الإنسان نحو التحرر والتقدم والخلود. لا أن يكون المسجد مخدع للمؤمن ومستراح المؤمن، وانما ثكنة للنضال ومعسكرا للثورة! ولكن هل هذا هو طريق العودة إلى الذات؟ أم هو طريق العودة إلى الآخر؟! هل يعني نقد طريق شريعتي نحو الذات أننا ضد الأفكار التقدمية أو أننا ضد الأفكار الرجعية والتي تكبل الأمم؟

إننا ننتقد التلبس بتلفيق الشاهد على الغائب، مماحكة أن يقود المثقف المجتمع نحو الطريق المزيف! إننا لا نريد هذه الأفكار عارية من ملابساتها التاريخية الفلسفية التي خلقت هذه مساحة الوجود لهذه الأفكار!

الماركسية ليست هي نضال أبو ذر ضد عثمان بن عفان، وثورة الحسين ليست الثورة على مؤسسة السلطة في شكلها الحديث، وربعيي بن عامر لم يكن يحرر العباد بذات مفهوم جون لوك الفلسفي أو إحداثيات أبراهام لينكولن!

ﻻ تتحقق أماني ياسبيرز هذه بدون تحقيق وجود الآخر في مخيلة الذات، ووجود الذات على حقيقتها دون توهم الآخر فيها، من ثم التواصل العقلي الفكري بينهما!

العودة إلى الذات في شكلها هذا غير أنها تنتج مسخا فلسفيا مشوها واعتدادا مزيفا بالذات الحضارية وتمثلا مشبوها بالآخر في ذاتية الذات، فهي تحرم الأمة من تفهم السياق الفلسفي والعقلي الذي أنتج هذه المذاهب الإنسانية والتي حررت الإنسان من جبروت الناسوت واللاهوت!

المثقف يحمل في وعيه منهجهه النضالي، ويحمل في لاوعيه روحه الذاتية التي تشربها من الثقافة المحلية، ولكن ما ضرورة الخلط المجحف بين هذه الجواهر المغايرة ؟ ما ضرورة المتلازمة إن نحفظ الله أن نتمثل بصورة مضحكة ذواتنا المنتفخة بقصص تاريخية دفنتها تجارب الإنسانية الغنية ورمال التاريخ الطويل، من ثم نعود إليها بطريق التلفيق والتلبس ؟!

كما يقول جورج طرابيشي في هرطقاته، أننا نحتاج قبل الديموقراطية كمفتاح للعصر الجديد، مفتاحا لهذا المفتاح نفسه! وكذلك نحن نحتاج مفتاحا للوقائع الاجتماعية الحاضرة أمامنا، حتى نتوصل للمفتاح الذي نفتتح به عصورا قادمة!

إن عودة إلى ذات المجتمع، تقتضي الوعي بالآخر نفسه كما هو دون ملابسات الذات، لأنه يمثل شكلا من أشكال العودة الحقيقة للذات(الوعي بحقيقة الذات وحدودها وحياتها العقلية الحقيقية)!

يقول الفيلسوف الوجودي كارل ياسبيرز : " ليس هناك وجود بلا اتصال مع الآخر،  فالعلاقة بين الأنا و الآخر علاقة وجودية، وأنا موجود في هذا التواصل".  ﻻ تتحقق أماني ياسبيرز هذه بدون تحقيق وجود الآخر في مخيلة الذات، ووجود الذات على حقيقتها دون توهم الآخر فيها، من ثم التواصل العقلي الفكري بينهما!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.