شعار قسم مدونات

لأجلكِ.. لن نغفر ولن نسامح !

blogs - ada

كان شعوراً غريباً عندما وافق أبي على طلبي وهو النزول الميداني لمدارس الإيواء أثناء الحرب ، وهو الذي يخافُ علينا من نسمةِ الهواء الرقيقة، لكنه الوطن وعندما يتعلق الأمر بالوطن فالتضحية بالنفس والأبناء، التضحية بالبيت والمال، التضحية بكل شيء لهذا الوطن..
كله يهون في سبيل إعلاء كلمة الحق (كانت هذه كلماته دائماً).
 

كانت المدرستان اللّتان كنا نقدم بهما الدعم النفسي للأطفال في مدارس الإيواء.. كان العمل مريباً.. فلا يوجد أصعب من أن تقدم خدمة متميزة أثناء الحرب، تقدم الخدمة وأنت ترى دماءً هنا، وجرحى هناك، تقدم الخدمة بكل كفاءةٍ واحترافية وأنت تذوق الموت في اليوم آلاف المرات. والأصعب من هذا أن تبقى متماسكاً صلباً أمام أطفال لم يبلغوا سنَّ العاشرة.
 

وانتهاء الدوام أيضاً صعب، كنت أترك قلبي عندما كنت أتركهم، استودعهم بودائع الرحمن إلى أن ألقاهم في اليوم التالي.. وما إن أدخل باب المدرسة صباحاً حتى أبدأ بإحصاء عددهم كل يوم لأطمئن أن الجميع كما تركتهم بالأمس.

الحمدلله الجميع على قيد الحياة، فلنكمل هذا اليوم على خير..
 

لا يوجد أصعب من أن تقدم خدمة متميزة أثناء الحرب.. ترى دماءً هنا، وجرحى هناك تذوق الموت في اليوم آلاف المرات.

كانت مجموعتي (التي تم اختيارها لي) هادئة نوعاً ما بفعل الحرب، خاصة عند اشتداد موجة الصواريخ، وعند سماع سيارات الاسعاف، وسماع مذيع الإذاعة وهو يتحدث عن عدد الجرحى والشهداء.. كانت كل هذه العوامل مجتمعةً تخيف الأطفال وتجعلهم في حالة من التوتر والخوف، عداها.. كانت (سهيلة) مع هدوء واشتداد الحرب هي (سهيلة) وقد أسميتها المشاغبة..
 

اللعب والركض والرسم والرقص وكل شيء، كنت أحدق بها أحياناً متسائلة! ألا تخاف هذه الطفلة؟! ألا تسمع صوت القصف مثل زميلاتها؟ ألا يرعبها صوت الإسعاف!
كان أغلب يومي ينقضي ب ( اهدئي يا سهيلة.. اجلسي مكانك يا سهيلة.. سهيـــلةةةة انتبهي.. سهيلة صوت صاروخ، الى الحائط يا سهيلة..) لكن هيهات لتلك الشقراء أن تسمع.
 

كان حديثنا عن مدينتها الشجاعية من الروتين اليومي، ففي أي وقت تراني فيه تأتي مسرعة لتصرخ: هااااا ماذا بعد، متى ستنتهي الحرب، لقد مللت أريــد العوودة ، وكانت نقاشتنا اللاجدوى منها من الروتين اليومي أيضا.

قبل انتهاء الحرب بيوم ذهبت صباحاً إلى مدرسة الإيواء، كان الجو مشحوناً بالتوتر خاصة مع أصوات تلك الطائرات اللعينة، عداها بالطبع! كانت صغيرتي الشقراء قد فتحت صنبور المياه ولا ترحم طفلاً يمر من أمامها.. ضحكنا يومها أنا وصديقاتي عند دخولنا، وما إن وصلت حتى قلت لها بصوت حاد: إن لم تجلسي مكانك وتهدئي اليوم فلن أعيدك الى الشجاعية.


لا أدري لمَ حملقت بي سهيلة بهذه الطريقة، لم أكن أعلم أن مع كل عدد التوبيخات الفائتة التي تلقتها مني؛ أن تكون هذه الأقسى، فروحها وقلبها كان دائماً في الشجاعية؛ حيث منزلها، عادت صغيرتي أدراجها وكان هذا فعلاً أهدأ يوم رأيته على سهيلة، تطيع الكلام ، لا تقترب من الأماكن الخطرة، تتناول طعامها بهدوء وبدون شوشرة على زميلاتها وكانت هادئة، أجل كانت أخيراً هادئة.

بعد 51 يوم من الدمار والدماء أعلنَ انتهاء الحرب، فتحت باب منزلنا مسرعة، لم أكن أمشي على قدماي كنت أطير وحسب ،لم يكن يدور في عقلي وقتها إلا تلك المدرسة وكيف أن العودة الى منازلهم ستكون عارمة بالفرحة .

كان الشارع مزدحماً، أصوات التكبير في المساجد، حلوى النصر توزع.، ألعاب نارية، لا أستطيع أن أصف فرحة الأهالي وعيون الأطفال، كان الجميع سعيد. حق لهذا الشعب أن يحتفل أن يبتهج وأن يهنأ، كان كل شيء مررت به مبهج .

 

لكل شيء عذر، بكل شيء يمكن التسامح.، بكل شيء تستطيع أن تغفر، إلا الوطن وبأصحاب هذا الوطن.

عدا المدرسة، كانت الفرحة غريبة، والوجوه شاحبة، الجميع مذهول من هول ماحدث، ما إن رأيت المدير حتى تساءلت ماذا هناك.؟! أخذنا المدير إلى غرفته وأبلغنا بحزن أن هناك طفلة استشهدت عند آخر صاروخ، في اللحظات الأخيرة.

تألمنا جميعاً ليس لموتها بل لأنها آخر اللحظات، فكيف لطفلٍ سمع أنه سيعود الى بيته؛ ألّا يعود، وما إن هممت بالنهوض حتى كان المدير يتحادث مع سكرتيره ويقول له: إسمها سهيلة.. أجل سهيلة، ارفقها بالتقرير، كان لصوته صدىً حتى آخر العالم، من هول ما سمعت ظننت بأن كل العالم ردد ب : إسمها سهيلة.

لم أصدق، عقلي لم يعد يستوعب من الذي رحل؟! سهيلة ! الوحيدة التي يجب أن تبقى وجميعنا يجب أن نرحل، ركضنا مسرعين بدون وعي إلى المشفى حيث كانت في غرفة العناية المركزة. خرج الطبيب قائلاً: شبه موت سريري .. ادعوا لها بالرحمة!
 

كان إصراري وتوسلي للطبيب بالدخول الى غرفة سهيلة صعب جداً، ولكني لم استسلم حتى وافق أخيرا. سهيلة.. سهيلة.. افيقي.. أتوسل إليك بأن تفيقي.. انتهت الحرب ياصغيرتي، صدقيني كنت أمزح، كان هراءً يوم أن قلت لك لن تعودي.، سهيلة صدقي.. لقد تمنيت لك الحياة أكثر مني.. عودي فشجاعيتك تنتظر!
 

سويعات حتى أعلن الطبيب وفاتها. سهيلة عندما جاءها الصاروخ.. لم تكن تريد الذهاب حتى اطمأنت بأن الحرب انتهت، رحلت سهيلة بعدما سمعت من حولها أنهم سيعودون إلى الشجاعية. ومنذ رحيل سهيلة، وأنا أؤمن وأيقن بأن لكل شيء عذر، بكل شيء يمكن التسامح.، بكل شيء تستطيع أن تغفر يا صديق، إلا الوطن وبأصحاب هذا الوطن.|
 

أعدك يا صغيرتي بأننا لن نسامح ذات يوم ولن نغفر.. ليست سهيلة فقط الغالية في هذا الوطن.. فلكل إنسانٍ يعيش على هذه الأرض لديه غالٍ يعده كل يوم صباحاً عند قبره بأنه لن يغفر ولن يسامح.

فإياك! إياك ثم إياك أن تنساق لحماقات السلام، ليس لأجلي ولا لأجلك، لأجل (سهيلة).

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.