شعار قسم مدونات

في عمق الجمال

blogs - nature
بدا لي مهموماً حينما سالتهُ، ماذا يعني لك الجمال؟ فزفر زفرة طويلة، تكاد تتساقط لها أضلاعه وأجاب، هو أن "يتركني الناس ثلاثة أيام لشأني، من دون اتصالات، أو مصالح عمل! ثم أضاف "الجمال ما يفقدهُ المرء ويكون بحاجة ماسة إليه".

الجمال بشقيه المادي والروحي، حاجة فطرية للإنسان لأنه روح الأشياء التي حولنا، وبريقها المكنون، وسرها المودوع فيها!، لا قياس ولا حدود ولا محيط له، يقول جوزيف أديسون "لا يخترق الروح مثل الجمال". وما يبدو قبيحاً لك هو جميل عند غيرك ويعود السبب بذلك لعدم وجود مقياس، أو قانون واضح للجمال بين الناس، لأن فلسفتهِ تكثر فيها المتناقضات، والمتشابهات، حتى بات باستطاعة المرء أن يدون ويبرهن ويناقش فيه، أكثر مما يستطيع في أي موضوع آخر.

الجمال هو الغوص في مكنونات الأشياء والتعرف على خفايا مكوناتها فبهِ يهيمُ المرء وينتقل من عالم الماديات المثقل بالمصالح والمشاغل والتعب إلى عالم الروحانيات. 

وهذا كان واضحاً في آراء الفلاسفة والعلماء، على مر العصور، مثل أفلاطـون وسقراط وأرسطو والكندي والفارابي والتوحيدي والغزالي وغيرهم، فتجد أراءهم برغم اختلافها تارة، وتشابهها تارة أخرى، إلا أنها محاولات جادة، للولوج إلى عمق الجمال، والإحاطة به من كل جوانبه. ومن الناحية العامة، فإن "العمق هو المسافة العمودية من الأعلى إلى الأسفل" كذلك الجمال هو عُمق الأشياء وأعلاها الخيال، أو هو الغوص في مكنونات الأشياء والتعرف على خفايا مكوناتها، فبهِ يهيمُ المرء وينتقل من عالم الماديات المثقل بالمصالح والمشاغل والتعب، إلى عالم الروحانيات، من عالم المنطق والمعادلات، إلى عالم المشاعر والخلجات، ليرمي تلك الأثقال من على ظهره، في محاولة منه للوصول إلى الاستقرار النفسي والروحي، والعيش مع الحب ومكنونات المشاعر، وربما يصل إلى غايته بتأمله ِ لوحة أو زهرة أو بسمة أو قطرة ماء أو قطعة خشب جوفاء! لتسكنُ روحهُ، ويهدئ روعهُ، أمام قساوة الحياة وتقلباتها المريرة، لأن بلوغ الجمال تحصيل حاصل للمتأملين.

فيهيمُ آخر في جمال الروض فيمشي في أروقتها، وأسواقها، وحدائقها، فيحلق بجمالها إلى السماء، ويهبط مطمئنا ليقبل صفحة الماء، ويبدو لي، أن كل ما يبعث في النفس البشرية من السعادة والهدوء واسترخاء والشموخ، هو جميل! وقد أجاد الوصف الشاعر إيليا أبو ماضي حينما أراد أن يضع قاعدة عميقة المغزى للجمال، حيث قال:
أيهذا الشاكي وما بك داء كن جميلا ترَ الوجود جميلا!

فصاحب القلب الأسود، البائس، الممتلئ بالأحقاد والحسد، لا يمكن للجمال أن ينفذ إليه، فلا يشعر بوجوده، ولا يسمع أنغامه، فلا يطرب للحن الشجي لخرير الماء، ولا يصغي لحفيف الأشجار، أو زقزقة الطيور على الأغصان، ولا يطرب لجُشْأَة الريح ولا لسِّواس الحلي ولا يطرب لأي ألحان. لذا عوّد نفسك على الجمال، لتعود بالنفس إلى هدوء مشاعرها وصدق اطمئنانها وصفاء وجدانها ونقاء جوهرها.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.