شعار قسم مدونات

سعار كروي

BLOG-تشجيع

عقول مشدوهة وأبصار شاخصة وقلوب معلقة بكرة تتقاذفها الأرجل وتتناطحها الرؤوس، فإذا ما سُجل هدف انفجرت القاعة جلجلةً وصراخاً بين فرحين مهنئين وساخطين شاتمين، كذا الأمر حين يضيّع لاعب فرصة محققة إذ ترى مشجعي فريقه يكيلون له أقذع الكلمات والعبارات الحانقة وكأنهم الذين تعبوا في تدريبه أو أنفقوا على ناديه، أما إذا أصدر الحكم قراراً لغير مصلحة (فريقهم) فلا تكاد تميز قذائف السباب الفاحش و الكلام المقذع بحق المسكين!

تؤدي كرة القدم في كثير من حالاتها إلى استقالة العقل و غياب الوازع الديني و الخلقي و ترك الأمر للغوغاء

لا ينتهي الجنون عند هذا، فلا بد من التحضير للمباراة (المصيرية) قبل أيام تحضيراً يليق بثقلها، تراه بجلاء في مواقع التواصل الالكترونية تحدياً وتوعداً بين أنصارالفريقين، تعرف فيهما قدر الضياع الذي حل بشبابنا وأزمة الهوية التي أسقطتهم في أودية سحيقة، فحسابات تعج بأعلام الأندية أو دول المنتخبات و منشورات تجيش بجمل مثل (نحن الألمان، يا برشلونيون، استعدوا يا مدريديون)! و عنتريات جوفاء تعتد بـ(مناقب) اللاعب الفلاني وتاريخ فريقه، و هجاء مضاد يسرد فضائحه و يعدد مثالبه فلا يبقي ولا يذر!

و بعد المباراة ينتفش أنصار الفائزين مزهوّين بنشوة (النصر) زهوَ الفرسان المثخِنين والصناديد الفاتحين، مذكّرين (الأعداء) بنصيحتهم لهم بعدم التحدي، أما مشجعوا الفريق المهزوم فتنخفض أصواتهم و يزيلون صور الأعلام واللاعبين مطلقين بعض المنشورات الموبخة للحكَمَ لـ(تحيزه) أو المنتقدة لخطة المدرب أو طريقة اللعب، و قد تصيب بعضهم أزمة قلبية و قد يطلق أحدهم زوجه!

قال الكاتب الجزائري إبراهيم صحراوي في استطلاع لصحفية نوارة لحرش نُشر في موقع (مؤسسة النور للثقافة و الإعلام):"انتهى الحلم و وصلت المغامرة إلى نهايتها و عادت الأمور إلى ما كانت عليه سابقاً في انتظار ملهاة أخرى ينشغل بها الرعاع".

الظاهرة بالنسبة لي هوس أجوف وجنون بليد و شغف غبي بأشياء خاوية لا طائل من ورائها ولا نفع حقيقي فيها إلاَّ للاعبين و مؤطِّريهم و حُماتهم ومن له منفعة في ترويج صناعة كرة القدم سياسياً واقتصادياً واجتماعياً و ثقافياً؛ لإلهاء الغاشي أو العامة أو الدهماء أو الغوغاء أو ما يصطلح على تسميتها بالجماهير (تخفيفا لحِدَّة المصطلحات السابقة) للتغطية على المشاكل و سوء التسيير و كلَّ ما يترتَّب عنه من آثار سلبية و نتائج وخيمة.

الظاهرة الكروية في العالَم الثالث عموماً و عندنا خصوصاً سعي بائس للبحث عن المجد والعظمة في غير محلِّه و بغير أدواته الحقيقة و شروطه الضرورية و جنوده الفعليين.. نتائج هزيلة و خيبات مدوية نتفنَّن في تحويلها إلى انتصارات مُشرِّفة زوراً و بهتاناً.

لا أدعو إلى اعتزال المشاهدة و ترك الهواية، بل التوسط المعقول و التشجيع الذي لا يذهب بالعقول

تؤدي كرة القدم في كثير من حالاتها إلى استقالة العقل و غياب الوازع الديني و الخلقي و ترك الأمر للغوغاء و الدهماء؛ لتسيير الأمور مما ينتج هستيريا تستبيحُ في بعض الأحيان الأصولَ والأعراف والتاريخ والرموز والأعراضَ والكرامة والتنابز بالألقاب و إحياء العصبية، عصبية الجاهلية الأولى في كل الحالات، باسم وطنية زائفة و نفاق مكشوف.

خطر الظاهرة الكروية أنَّها تُمجِّد الأرجل و تجمِّد العقول و تُكسِّر الأقلام، تحوِّل القوة و الفعالية لدى الجميع لاعبين ومناصرين و مسيِّرين و مهتمِّين من السواعد والعقول والأذهان إلى الأرجل والأفواه..".

لا أدعو إلى اعتزال المشاهدة و ترك الهواية، بل التوسط المعقول والتشجيع الذي لا يذهب بالعقول؛ فالمنتخبات و الأندية مالئة ألباب مساكين لا تعبأ بهم، و اللاعبون شاغلون الناس مشغولون عنهم، فرفقاً بأنفسكم.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.