شعار قسم مدونات

أفي اللَّه شك؟

blogs - Faith

للإيمانِ دوافعُهُ الّتي تتجاوز نِطاق الصِّراعات الكلاميّة والفلسفيّة والعقليّة. تتجلّى تلك الدَّوافع في معظم تعبيرات واندفاعات النَّفس البشريّة، حتّى المُتمرِّد منها. شيءٌ أشبه ببعضِ الفتيات اللّائي يعتقدن بكون الحجابِ فرضًا، وأنَّ ارتداءَه هو رد الفعلِ الطبيعيّ لهذا الاعتقاد؛ ولكنها تُقرر ألّا ترتديه؛ نِكايةً في هذا المُجتمع الّذي يربط عفّتهَا بارتدائها للحجاب.

يمكننا فَهم بعض الشِّعرِ العربيّ المنظومِ في الجاهليّة في نفسِ هذا السّياق. ففي اعتقادي أنَّ ما نُسِبَ لطَرَفة بن العبد من مقالته:
فإذا لم تكن تستطع دفع منيّتي … فدعني أبادرها بما ما ملكت يدي
وما قاله آخرٌ: 
حياة ثم موت ثم بعث … حديث خرافةٍ يا أم عمرو

هي صرخةُ عقلٍ أضلّ الطريق، وأنين وجدانٍ يتوق ويتطلّع إلى ما يُهدئ من روعه ويشبع شهوته نحو الفَهم. معلومٌ للجميعِ بالطَّبع، أنّ الإنسانَ كلّما غَرِق في الشّهواتِ؛ كلّما زادت حيرته، وقّل استمتاعه، وأخذت الحياةُ تفقد معناها تدريجيًّا في سبيل الإجابة عن السؤال المُلِح : وماذا بعد؟

ربما تجد مُدنًا بلا أسوار، بلا قصور، بلا مسارح، بلا آداب، بلا ملوك؛ ولكنّك لا تجد مُدُنًا بلا معابد.

وإذا كان استيعابُ النَّقصِ المادي والفقر الذّاتيّ في الإنسان – لُغويًّا وفلسفيًّا – دليلٌ على وجود الكامل المُستغني بذاته من جهة، فإنه أيضًا يعني استمرارَ حالةِ الارتباطِ بينَ الفقير بذاتِه والغني بذاتِه؛ فالفقيرُ في حاجةٍ دائمة إلى الرّكونِ والسّكونِ بالغنيّ بذاته؛ والغنيّ بذاته لا يحتاج.

يحاولُ البعضُ تصنيفَ هذا الإيمانِ باعتباره " دوغماً "، مُستَنِدًا إلى تفسيراتٍ تاريخيّة أسطوريّة تشير إلى أنَّ الإنسان القديم ابتدع " فكرة الإله "؛ ليأوي إليها، وينفّس بها عن مخاوفه من الظّواهر الّتي استصعب عليه إدراكُها أو التّعامل معها مثل: المطر، والرعد، والبرق، والحيوانات الضّارية.

إن كان ذلك صحيحًا، فلا معنى لإيمانِ معظم سكّان الأرض في القرن ال٢١، وتفسيرُ هذا الإيمان على أنه نِتاجُ الموروثات والقيود الاجتماعيّة، هو تفسيرٌ بالِغ السّطحيّة في زمنٍ تتحطّم وتنهارُ به العادات والتَّقاليد على أعتابِ العولمة والانفتاح الثّقافيّ والحضاريّ.

وبِناءً على ذلك؛ يتضح مقصودُ الكاتبِ الإغريقيّ بلوتارك من مقولته الشّهيرة :
" ربما تجد مُدنًا بلا أسوار، بلا قصور، بلا مسارح، بلا آداب، بلا ملوك؛ ولكنّك لا تجد مُدُنًا بلا معابد".

إنّ المعرِفةَ الفطريّة وما يرتبط بها من مشاعرٍ تجتاحُ الإنسانَ مثل: شعوره بالغائيّة؛ إنني موجودٌ هُنا لعلّةٍ ما! أو نزعته الأخلاقيّة المُجرَّدة، والمُتمثّلة في قدرته على التّفريقِ بينَ الصَّوابِ والخطأ، وتفرُّد الإنسانِ – دونَ باقي الكائنات الحيّة – بالعقلِ المُفكّر القادر على استيعاب وإدراك مفاهيمٍ معنويّة مثل: الجمال والقبح، وصولًا إلى إقراره بالتمتّع بالإرادةِ الحُرّة الواعية القادرة على القَبول والرّفض في أي وقت؛ ستظلّ مبرراتٍ منطقيّة، وأدلّة قويّة دامغة على ضرورةِ الإيمان، وخاصَّة في ظلِ عجزِ المناهجِ الماديّة المُختلفة عن تفسيرِ تلك المشاعر والظّواهر.
 

كما أنّ البدنَ يظمأ، ويرويه الماء؛ فإنّ الرّوحَ تمرضُ وتظمأ، ولا يرويها ويشفيها إلّا استحضارُ الإيمانُ الفطريّ المودعُ في كلّ البشر.

إنَّ الإيمانَ قوّة دافعة ووقودٌ خارِق أُودع في الإنسانِ، لتكتملَ به إنسانيتُهُ، ويؤدي تجاهلُه إلى كوارثٍ وانتكاساتٍ خطيرة، قد تودي بحياةِ صاحبها. وقد أشارَ القرآنُ والرّسولُ في غير موضعٍ إلى أنّ الإيمانَ قد غُرِس غرسًا في نفوس البشر: " فأقم وجهك للدّين حنيفًا فطرة الله الّتي فطر النّاس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيّم ولكن أكثر النّاسِ لا يعلمون " الروم: (٣٠ ). " ما من مولودٍ إلّا يولَد على الفطرة؛ فأبواه يهوّدانه أو ينصّرانه أو يمجّسانه … " صحيح البخاري.

وقد أكَّد الدكتور Barett، المُحاضِر في مركز أبحاث Oxford في دراسةٍ أجراها على عددٍ من الأطفال المولودين في بيئات مُنعزِلة جغرافيًّا، أن مُعظمَ الأطفالِ كانوا يعتقدون أنّ لكلّ شيءٍ في هذا العالم سببٌ وعِلَّةٌ لوجوده، وأنهم كانوا " مؤمنين" !.

كما أنّ رسالةَ الأنبياء والرّسُل لم يكن موضوعها إثبات وجود اللّه؛ فسدنة الجاهليّة – على سبيل المثال – كانوا يؤمنون بالله إلهًا واحدًا، ولكنّهم كانوا يُشرِكون مع الله أصنامهم؛ ظنًّا منهم أنها تُقرِّبهم إلى اللّه زلفى! فالقضيَّة دائمًا لم تكن الإيمان من عدمه، وإنّما كانت في إفرادِ اللّه بالعبادة ( توحيد الألوهيّة ).

كما أنّ البدنَ يظمأ، ويرويه الماء؛ فإنّ الرّوحَ تمرضُ وتظمأ، ولا يرويها ويشفيها إلّا استحضارُ الإيمانُ الفطريّ المودعُ في كلّ البشر بواسطة الحق المُطلق وواجد كلّ الموجودات؛ اللّه.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.