شعار قسم مدونات

أبو الميكانيك

blogs - mech
ندرس في الميكانيك مبدأ عمل المحرك، فعندما يحترق الوقود ينتج قوةً تقوم بدفع المكابس (piston) على شكلِ حركةٍ خطيةٍ تردديةٍ، سرعان ما تتحول إلى أخرى دورانية عن طريق عمود الكرانك (crankshaft) كما يحدث تماماً في محرك السيارة. من ناحية أخرى لم ندرس عن بديع الزمان الذي اخترع عمود الكرانك والمكابس! لم نقرأ في كتبنا الأجنبية أن الثورة الصناعية – التي قامت بعد اختراع المحرك البخاري – يرجع فضلها إلى عالم مسلم يدعى ابن الرزاز!

بديع الزمان أبو العز بن إسماعيل بن الرزاز الجزري، ولد في جزيرة إبن عمر الواقعة على الحدود السورية التركية. كبير مهندسي الميكانيك في ديار بكر، وهو مؤلف كتاب (الجامع بين العلم والعمل النافع في صناعة الحيل). أبدع الجزري في صناعة الساعات الميكانيكية، ومن أشهرها ساعة الفيل والتي تعتبر رمزاً فنياً يعكس مبدأ التنوع والإختلاف في الحضارة الإسلامية. وقد كان أول من فكر في صناعة الإنسان الآلي، فقد ابتكر فرقة موسيقية تعزف وتطفو على الماء، وقد صنع خادماً يساعد في جلب ماء الوضوء وقت الصلاة. أبدع كذلك في صناعة آلات رفع المياه فمنها ما استخدم فيه الحيوانات، ومنها ما اعتمد على المغارف الموصولة بالمسننات، ومنها ما ارتكز على استخدام المكابس الماصة والضاغطة.

في القِدَم إستخدم الإنسان علم الحيل في أهداف عديدة، كان أبرزها السحر والخداع البصري، وقد تم إستغلاله في التأثير الديني عن طريق صناعة التماثيل المتحركة أو الناطقة، أو عن طريق صناعة آلات العزف في المعابد. لما جاء الإسلام جعل الصلة مباشرةَ بين العبد وربه بعيدة عن الحيل أو الخدع البصرية، فكان هذا بمثابة ولادة جديدة لعلم الميكانيك، ولكن بهدف أساسي أسمى وهو إستبدال المجهود الجسدي الضخم بمجهود أقل، لنستغني بذلك عن سخرة العبيد التي لطالما سعى الاسلام إلى إنهاء وجودها عن طريق العتق والتحجيم.

الثورة الصناعية قامت في أساسها على اختراع المحرك البخاري، والذي وضع الجزري أساساته قبلها بقرنين.

نقل الجزري علم المكانيك من طور الطفولة العلمية إلى طورالرشد، حيث جمع شتات العلم الذي كان مبعثراً بين الرومان والفرس من جهة، والصينيين من جهة أخرى، وتقدم به خطوات حتى جاءت الثورة الصناعية التي قامت في أساسها على إختراع المحرك البخاري، والذي وضع الجزري أساساته قبلها بقرنين.

كتابه (علم الحيل النافعة) موجود اليوم في متحف الباب العالي في إسطنبول، وفي متحف الفنون الجميلة في بوسطن، وفي متحف اللوفر في فرنسا، كذلك في مكتبة جامعة إكسفورد. وقد نشر باللغتين الإنجليزية والألمانية، ومن المحزن أنه قد تم نشره بالعربية في السبيعينيات من القرن الماضي!

هذا السرد التاريخي ليس للتباكي على أمجاد الآباء، إنما نذكره تزامناً مع الهجمة التي تتعرض لها ذاكرة الأمة وتصورها عن نفسها أمام العالم. فالهجوم على التاريخ الاسلامي وتشويهه وإنتقاصه، وتعظيم القوى الأخرى المحاربة له، يؤثر بشكل أو بآخر على عقلية الشاب المسلم الذي يَعتَبر نفسه من الطليعة الناهضة في الأمة. لا أبالغ حين أقول أن بديع الزمان الجزري هو (أبو الميكانيك)؛ فقد أنجب علمه وميراثه في الميكانيك ما يستحق به أكثر من حق الأبوّة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.