شعار قسم مدونات

الانزلاق نحو مجتمع السوق

Mall

ما هو مجتمع السوق؟ وما الفرق بينه وبين اقتصاد السوق؟ ببساطة فجة اقتصاد السوق هو أداة او طريقة لإدارة النشاط الانتاجي، بينما مجتمع السوق هو المجتمع الذي لا يوجد فيه شيء غير قابل للبيع والشراء!

وبلغة أخرى هو المجتمع الذي يتعامل مع القيم غير المادية كسلع مادية، والفرق الأساسي كبير جدا بين مجتمع السوق واقتصاد السوق؛ الأول نمط حياة وطريقة حياة تبتلع تدريجا او تكتسي مع مرور الوقت بقيم السوق لحد هيمنة الاخيرة على كافة مناحي حياتنا.

أي مناح تلك؟

مجتمع السوق هو المجتمع الذي لا يوجد فيه شيء غير قابل للبيع والشراء!

منها أنه بمقدور السجين الذي لا يرغب بالنزول في المهاجع العامة أن يدفع 82 دولارا مقابل خدمات رائعة في زنزانته. وبمقدورك أن تشتري المواطنَة الأميركية مقابل 500 الف دولار، وبمقدورك أن تدفع 8 دولارات في ساعات الازدحام للمرور من طرقات مخصصة لمن يدفع المبلغ الموسوم ويبتعد عن الطرقات المكتظة.

بمقدورك استئجار رحم امرأة لتحمل بطفلك طوال تسعة اشهر مقابل مبلغ يبلغ معدله 7 الاف دولار، وبمقدورك ان تشتري حيوانات منوية بمواصفات معينة بدءا من سعر يبدأ من 40 الف دولار.

وتدفع بعض المدارس للطلبة مبلغ دولارين لكل طالب تحت سن الثامنة عن كل كتاب يقرأه كاملا كنوع من التحفيز على القراءة، ويمكنك أن تشتري قبولك في جامعة مرموقة وعريقة لقاء مبلغ مالي معين.

يمكنك أن تتعاقد مع حكومة ما للقتال في بؤر النزاعات الدولية المتعددة لقاء مبلغ مالي يبدأ من حدود الف دولار لليوم الواحد إذا كنت مرتزقا محترفا. ويمكنك أن تستأجر مشردا ليقف بدلا عنك في طابور ما، بل هناك شركات كثيرة بإمكانك الاتفاق معها لتقوم بجعل مشرد ما يقف بدلا عنك بطابور ما.

يمكنك أن تحصل على صوت الناخب بكل سهولة لقاء مبلغ مالي معين. وبإمكان شركة ما شراء حق اصدار الغازات في الجو مقابل مبلغ مالي، مما يؤدي تلويث الجو والبيئة بصورة قانونية حسب قيم السوق.

بإمكانك شراء اعتذار من إحدى الشركات الصينية مقابل مبلغ مالي معين، فإذا ما انزعجت أو أساء لك أحد الأشخاص فإمكانك الذهاب الى تلك الشركة وشراء اعتذار.

فهل هناك داع للقلق من عالم كل شيء فيه قابلا للبيع والشراء؟ نعم هناك ما يقلق ويجعلنا نتساءل عن الحدود الأخلاقية للأسواق كما يفترض ساندل، ومكمن القلق ينبع من سببين:

هناك داع للقلق من عالم كل شيء فيه قابلا للبيع والشراء

أولا المساواة : المال يستطيع شراء حاجيات كثيرة مثل البيوت والسيارات والادوات المختلفة والمتعددة، وهنا يكون الحديث عن الثراء الفاحش والفقر المدقع قضية، لكن طغيان قيم السوق في المجتمع وحكم المال وتحكمه في مواضيع مثل التعليم والمواطنة والسياسة والقانون والصحة يصبح قضية كبيرة جدا وبالغة الخطر.

وهذا الخطر يزيد من لدغة عدم المساواة بتعبير ساندل ويرافقه كثير من التبعات الاجتماعية والسياسية…حلها الوحيد أن يموت الفقر وهذا مستحيل على الصعيدين، وأمر لا يحتاج لمتخصص في الفلسفة ليسأل سؤال الإنسانية في وضع مثل هذا الوضع على الأقل.

ثانيا: التحويل الجذري لجوهر ومعاني الممارسات الاجتماعية:
إن طغيان قيم السوق في المجتمع يعمل على انزلاق المجتمع الانساني ليصبح مجتمع السوق، كل شيء فيه قابل للبيع والشراء، فمثلا شراء الراحة في الزنزانة، شراء اعتذار، شراء قبول جامعي مرموق، شراء حق تلويث الطبيعة، شراء الانتظار، شراء الأرحام والسائل المنوي ، شراء قراءة الكتب.

القراءة لقاء دولارين لا يجعل الغاية من القراءة المعرفة والقراءة لذاتها، بل تصبح أداة لجني الأموال

ومثال تجربة القراءة لقاء دولارين لا يجعل الغاية من القراءة المعرفة والقراءة لذاتها، بل تصبح أداة لجني الأموال ولذلك أصبح الطلبة يقرأون اكثر ويقرأون كتبا اقصر… وكذلك الحال مع التعاقد مع الشركات الأمنية وقضايا بيع وشراء الحيوانات المنوية…الخ.

على الرغم مما سبق وما يثيره من إشكالات فلسفية وأسئلة العدالة والمساواة والحرية والأخلاق عويصة وصعبة، إلا أن هذا لا يغني عن مناقشة حدود السوق، ويتوجب أن لا يقتصر النقاش على السؤال الاقتصادي للأسواق بل يتجاوزه.

رسم بينيكتي بوضوح تام الخطوط العريضة للعبوديات الجديدة، ومستقبل أنظمتنا في الأعوام القليلة القادمة، ويفتتح مايكل ساندل (فيلسوف وأكاديمي أميركي) بابا كبيرا من الأسئلة الاخلاقية عن حدود ودور السوق في عالم اليوم.

ويتفق كل من ساندل وبينيكتي بشكل ما على أكبر عار يهدد الديمقراطية الغربية، ويوضح الثاني أن ما مجموعه 80 بالمئة من ثروة العالم يمتلكها 20 بالمئة، بينما 80 بالمئة من سكان العالم يمتلكون ما معدله20 بالمئة، ويتوقع ان ترتفع النسب في القعد القادم ليصبح حوالي 10 بالمئة من سكان العالم يمتلكون 80 بالمئة من ثروة العالم.

وهذا الكلام ينطوي على سؤال الديمقراطية التي من متطلباتها المساواة بين الناس، بينما مجتمع السوق يقر بوضوح بأن هناك مجموعتين من الناس بالغي الثراء والمعدمين، بحيث كل من المجموعتين لها مدارسها ومنتزهاتها وشوارعها ومستشفياتها واسواقها بل وحتى سجونها.

وهنا يطرح سؤال أين العيش المشترك؟ أي الحد الأدنى من المساواة، أين هو التفاعل بين أطياف المجتمع المختلفة؟ وكيف ترسم سياسات الصالح العام؟

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.