شعار قسم مدونات

ما بعد الصدمة

blogs - rab

لقد كانت الشعوب العربية تعيش على أفكار تخديرية ترسخت فى ذهنها بسبب الخطابات التآمرية، التي تفترض أن العالم ما هو إلا رقعة شطرنج، وكل البشر إن هم إلا أحجار عليه يحركها البعض بكل بساطة لإنجاز مخططاتهم، فهم أصحاب قوة خارقة لا تضاهيها قوة، ونفوذ كبير ليس مثله نفوذ. ومما لا شك فيه إن الشعوب العربية جميعاً تعرضت إلى هزة نفسية عميقة إثر الأحداث التي تلت الربيع العربي ولازالت مستمرة.
 
ولعل الأمر أشبه بتلك الصدمة الحضارية التى تلقينَها فى أوساط القرن الثامن عشر الميلادى، عندما تعرض العالم الإسلامي للغزو الإمبريالى الغربي وتفاجأ بالفارق الضخم بين العالمين الإسلامي والغربي، وبسبب غياب أو تهاوي المنظومة المنهجية والمعرفية الإسلامية، فقد تأثرت الثقافة والحضارة الإسلامية بالفكر الغربي ولم يسلم من ذلك التأثير على العلوم الشرعية الخالصة.

 

ابتُلينا بعقول مغيبة، تعتبر أن كل ما يقع لها محنة إلهية وابتلاء من الله ليرى كيف يصبرون فيرزقهم النصر وهم يفعلون ما يفعلون.

ومنذ ذلك الحين ونحن فى حالة تيه وتخبط، لم نخرج منها حتى جاء الربيع العربي بنسمات الأمل، وربما الخلاص، بفتح أبواب الحرية من الاستبداد السياسي والثقافي والاجتماعي، وتحرير الشعوب حتى تؤسس لمستقبلها وفق ما تراه مناسباً لها، لكن هجوم الثورات المضادة قد أصاب الجميع بالصدمة، وعصف بأحلام الشباب وبآمال الشعوب جميعها صغيرها وكبيرها.
 

والصدمة في علم النفس هي تناقض حيوي بين تهديد العوامل الظرفية والإمكانيات الفردية للتغلب عليها، التي ترافقها مشاعر العجز والاستسلام الأعزل، وهكذا تتسبب في اهتزاز فهم الذات والعالم. وتصاب الشعوب بالصدمات إثر حادث مجهد أو حالة مرهقة خلال فترة طويلة أو قصيرة من الزمن، مع قدر من التهديد ذي طابع استثنائي أو كارثي، فذلك من شأنه التسبب باليأس عند كل شخص تقريبا.

على سبيل المثال: الكوارث سواء كانت طبيعية أو كوارث من صنع الإنسان، أو حوادث كبيرة وخطيرة، كمشاهد الموت العنيف لأشخاص آخرين، أو كون المرء من ضحايا القمع والتعذيب أو الإرهاب أو الاغتصاب أو أي جرائم أخرى. وعادة ما يتصرف الأشخاص بغلو عند التعرض للصدمات، فيقعوا بين طرفي نقيض، إما استسلام وانسحاب، أو استعداء وعنف. وقلة فقط هي التي تحاول أن تتخذ الدروس والعبر من الصدمات، وتستلهم التجارب وتميز بينها وتخضعها لمنهج معرفي منضبط، أملا فى استقراء واقعي من أجل استشراف أفضل للمستقبل.
 
وهؤلاء مثلهم مثل الأطباء، فالطبيب المعتاد من خلال تأهيله المهني على معاينة حالات الجراح الخطيرة يكون بمنأى عن الولوج في حالة من العجز، بل ويكون من خلال دراسة الطب قد تمرن كيف أن ينأى بنفسه من السقوط في معاناة الناس، لكي يتسنى له‌ أن يتعامل مع هذه الحوادث بشكل صحيح، ولكي يقرر ويصنف بذلك الحالة بشكل سريع ويختار العلاج المناسب.

فلن تطغى عليه مشاعر العجز بسبب المشاهد المرعبة في مكان الحادث. وإن كانت مرحلة الصدمة حالة طبيعية فإن تجاوزها ضرورة، فيتبعها مرحلة ثانية وهى مرحلة المواجهة الصريحة والمراجعة واستخدام المنهج النقدي والخروج بالعبر والدروس المستفادة. ولا يقف الأمر عند المواجهة والمراجعة الشجاعة فحسب، إنما يتبعها مرحلة ثالثة وهي مرحلة التحدي والتي تتبلور فيها البدائل والحلول لخلق واقع جديد مختلف عن واقع الصدمة. 

ويبدو لي أن الثوار والحركات والتنظيمات لازال بعضها في مرحلة الصدمة لم يتجازوها بعد، ويظهر ذلك جلياً من نمط تحركاتهم وخطاباتهم، التى انقسمت إلى انسحاب استسلامي فى خطاب كله يأس وفقدان للأمل، أو خطاب استعدائي يحارب الكل ولا يفرق بين عدو وصديق، يعلن الحرب التطهيرية على الجميع، ويطردهم من رحمته ولا يسلم منهم حتى الموتى.

 وهي خطابات تقع جميعها فى حالة من الواحدية المنغلقة على نفسها. وكلى الخطابين العملي البرجماتى الذى ينهزم أمام الواقع ويتقبله ويرضخ له معلناً انسحابه واستسلامه، أوالخطاب المثالي الاستعلائي الذي يرفض الواقع تماماً ولا يعترف بوجوده إطلاقاً ويحلق عالياً فى سماء الأوهام والأساطير، كلاهما خطابات دعائية عاطفية لا تغني ولا تسمن من جوع.
 

إن علينا تخطي المرحلة الأولى، مرحلة الصدمة العنيفة التي تلقيناها، والدخول في المرحلة الثانية وهي المرحلة التي قام بها اليسار التشيلي -على سبيل المثال- إثر الانقلاب العسكري الذي نفذه بينوشيه، فكان رد الشعب التشيلي على الانقلاب بالمقاومة، ولم يفقدوا الاتجاه أو يقعوا فريسة اليأس بل عمدوا إلى إعادة النظر فى برامجهم وتحالفتهم وتكتيكاتهم وأدائهم عبر النقد الذاتي وتصحيح المسار.

 ولكننا مع الأسف حُرمنا من مثل تلك العقول الواعية، وابتُلينا بعقول مغيبة تعتبر أن كل ما يقع لها هو محنة إلهية وابتلاء من الله ليرى كيف سيصبرون فيرزقهم النصر وهم يفعلون ما يفعلون، ونسوا أن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم. وكثير من قادة التنظيمات الثورية لا ترغب في تلك المرحلة ويستميتون في تأخيرها، تحت دعاوى شتى من ضمنها؛ أنه ليس وقته، وحفاظاً على وحدة الصف الثوري، وتحاشياً لشماتة الطرف الآخر… الخ

علينا أن نتحرر من أغلال الأيدولوجيا والمصالح الضيقة، فكلما استطاع الإنسان أن يحافظ على قدر ولو ضئيل من الاستقلالية كانت الأعراض أقل وطأة من الضحايا منزوعة الإرادة.

ونحن لا نقلل أبداً من شأن المرحلة الأولى التي كان مجرد الانتماء فيها إلى الثورة والدفاع عنها ومخالفة هوى السلطات الحاكمة بقوة السلاح، مجازفة لا يقوى عليها كثيرون، فآثر البعض الانسحاب والاستسلام والصمت. فى حين أن هناك من تحدى ووقف وصمد، ولكن الحكمة تتطلب أن يدرك الإنسان متى عليه أن يتحرك، فلا طائل ولا فائدة تُرجى من الصمود في نفس المكان بلا حركة، فيتحول الصمود إلى جمود لا يؤدي لنصر إنما يؤدي لتأخر عن مسايرة الواقع وتصويب مساره قدر المستطاع، فنترك الواقع يتجاوز مقولاتنا حتى نجد أنفسنا نلهث للحاق به بعد ذلك.

علينا إذاً أن نلتقط أنفاسنا ونراجع مواقفنا، وأعني بذلك كل الفصائل، بل كل فرد واع فى هذه الأمة، وننحي الخلافات جانباً، ونرسخ من قيم التسامح والتعاون، وكفانا نبش فى ضمائر الناس ومحاكمتهم على مواقفهم والرغبة فى الانتقام منهم والتشفي فيهم، وليصبح ردنا كرد نبي الله نوح عندما قال وما علمي بما كانوا يعملون إن حسابهم إلا على ربي لو تشعرون وما أنا بطارد المؤمنين إن أنا إلا نذير مبين.

 إننا بتخطي المرحلة الأولى والخوض في المرحلة الثانية بشجاعة وحكمة وقدرة على التسامح، نكون بهذا فقط أثبتنا لأنفسنا وللعالم أجمع سلامة وصحة مواقفنا ورؤيتنا، وقدرتنا على تقديم البديل الحضاري والمساهمة من جديد فى رقي الحضارة الإنسانية. 

وكي نفعل هذا وجب أن نتحرر من أغلال الأيدولوجيا والمصالح الضيقة، فعلمياً كلما استطاع الإنسان أن يحافظ على قدر ولو ضئيل من الاستقلالية، لكانت الأعراض عنده أقل وطأة من ضحية مسلوبة الإرادة قد مالت إلى الاستسلام. حيث أن ردة فعل الأفراد خلال حدث الصدمة، تكشف لنا شدة الاضطرابات التالية للصدمة. إن وصول الأمر إلى التفكك كبروز ظاهرة الاغتراب والإكتئاب أثناء الحدث الصادم، يزيد من حجم الصدمة النفسية وعدم التمكن من تجاوزها أبداً،
فلنتجاوز الصدمة إذاً كي لا يتجاوزنا الزمن كما حدث من قبل. 
والله أعلم

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.