شعار قسم مدونات

علَّ سواطير الجوع رحمة!

blogs-سواطير

كم أخاف من الغد، من خبر يُنعى به عزيز مثلا، أو حكاية تلوكنا بأضراسها من فظاظتها، أو حتى من صديق تخسره، أخاف من توالي الأيام بانتظام ليلها ونهارها.
 

مرتبك دائما من يفكر في المستقبل، ومتألم جدا من يعيش مع الذكرى ، محال لنا أن ننسى ماض رحل ، محال أن نستمتع بحاضرنا ، كهذه السطور المضطربة تنتحر حياتنا على ضفاف الغد.
 

الحب العربي سيظل بالنسبة للكثيرين مجازفة بالحياة وبالمستقبل وبالشرف وضرب من العمليات الانتحارية

لأن الحرب تسرق العمر وتقتل الوقت كما تزيل أساسيات العيش لتضع قوانين جديدة على اساسها تُرتب مستلزمات حياتك ، ثم تَحيك تضاريس عمرٍ جديد مليء بالأودية السحيقة و المستنقعات الرطبة المتخمة بقاذورات انتهاك حقوق الإنسان.
 

من بتر نسب عائلة إلى فناء ثانية عن بكرة أبيها، وتغيّب رب أسرة في مكان تحت الأرض ، ربما يقطّع أو تنهشه اللواحم والقوارض ، لكن سعيد الحظ من يبقى سجينا حتى يأذن الله له بالفرج و يلتقي بمن غادرهم عُنوة ، ربما لن يجدهم كما تركهم ، و على الأغلب الطفل أينع شبابا، والفتاة تزوجت مصيّرةً إياه جدًا .

فالموت فصل رئيسي فيها أي الحياة والمسرح وطنك، مدينتك، قريتك، شارعك ومدرستك التي مازال غبار الطباشير فيها عالقا فوق أناملك، وصراخ المعلم يهدر في مسامعك.

كم كانت تستهوينا عقوبة قف بجوار الحائط كي نسرق من الجدار سنتمتر واحد أو اكثر لننقش اسم من نحب، الذي دائما اعتدنا على اخفائه كمن يستتر على فدائي أو مطلوب للعدالة ، ذلك أن الحب العربي سيظل بالنسبة للكثيرين مجازفة بالحياة وبالمستقبل وبالشرف وضرب من العمليات الانتحارية.

في ذلك الوقت كنا نضحك ونعلم معنى الفرح نرسم أحلام للمستقبل ونداعب مطبات الحاضر بحيوية ، كان جُلّ همنا طعام الأغْدِية إبان عودتنا من المدرسة ، ثم توضيب واجبتنا خوفا من عصى المعلم في الغد، لم نعشق العلم بقدر هلعنا من الحساب عند التقصير، رغم ذلك كنا متفوقين.

والفراق أيضا موت بنكهة أخرى، على سبيل الألم طفل خرج ليحضر خبز الفطور لم يعد موجوداً بعد الضجيج الذي حدث في محيطه، سريع جدا ما جرى صفير أزيز ، ضغط ، غبار ، اشلاء ثم أجساد ترقد على قارعة الطريق، و رُغفانٌ تطيبت بالدم ، وجبلت بالشظايا ، وصراخ الثكالى و الأرامل يهتك عرض الفاجعة بعد أن وقعت.

أما الطفل حتى الآن لا زالت والدته تنتظره في كل فطور وتضع كوب الشاي الخاص به وتزين له صحن الزيتون الأسود إيماناً منها أن الشهداء أحياء يرزقون وأن العودة في لحظة ما ستكون.

على أهبة الاستعداد تبقى دائما ، ترتب ثيابه ، وتجمع أقلامه وكتبه في تلك الحقيبة الصغيرة التي كان موشوما على جلدها شخصية كرتونية اعتاد عشقها ( سبونج بوب ).

رفاق كثر شغلهم الوطن، وكل من زاويته حاول نصرته دون علمهم أنهم يشاركون في تدمير كنز ذكرياتنا وملعب طفولتنا وروابي عشقنا

لن أنسى الخصام بتاتا لأن ما يجري في بلدي نواته أبيض وأسود ، مؤيد ومعارض ثم تطور بعد ذلك الى مطالب مشروعة و قمع ممنهج، وأضحى اليوم رحى طائفية تطحن الجميع دون هوادة أو رحمة ، مدن كثيرة سويت بالأرض و قرى أكثر أزيلت من التاريخ بحجارتها وساكنيها ، هل بقي أفظع !؟

علَّ سواطير الجوع رحمةً جاءت كي تبقر بطون الشعب، ذلك الشعب الذي كانت تكلفه وجبة حشائش، روح أو بتر أطراف في مضايا على سبيل المثال ! بعد تزنيرها بالألغام و تسجيل عبارةً على لوحة الترحيب الخاصة بالمدينة مغلق والسبب حمية غذائية قاسية أُجبرت المدينة على اتباعها.

رفاق كثر شغلهم الوطن وكل من زاويته حاول نصرته دون علمهم أنهم يشاركون في تدمير كنز ذكرياتنا و ملعب طفولتنا وراوبي عشقنا ، حاولوا نصرة المظلوم ولَوِيَ ساعد الظالم فكان لهم عكس ما رغبوا.. فأخطأوا الرامي وأوجعوا الضحية.

ثم جاءت الهجرة وحلم اللجوء كالاسبيرين لمعاناتنا رغم قسوتها وشدة وجعها، رغم شراهة البحر لأجسادنا كنا نعبر بالألاف يوميا في قوارب مطاطية هشة، منذ سنة كان تاريخ الرحلة وحتى اليوم بين الحين والآخر تداعب ذاكرتي أمواج البحر وذلك الصدى المعروف جيدا لجيران البحر، في مدينة أزمير التركية منطقة بصمنة، التي يغلب عليها طابع القِدَم ، أزقتها تحاكي دمشق القديمة بشوارعها المرصوفة وشعبية متاجرها وازدحام أرصفتها، خلاف واحد يميزها عن مدينة حبي القديمة تنوع البشر ( عراقيين ، أفغان ، ايرانين ، والقسم الأكبر سوريين ) كانت بحجم دولة رغم صغرها.

تسلل الخوف فجأة الى جسدي من هول ما رأيت، سماسرة لكل شيء ، للتهريب ، للنصب والاحتيال ، لتجارة الأعضاء ، وحتى لإيجاد سقف تتكأ تحته وتنال قسط من الراحة بعد عناء السفر، يستغلك مالك الفندق متحولا إلى بعوضة تمتص دمك، مقابل غرفة أكل الدهر عليها و شرب، يشاركك فيها أشخاص آخرون إضافة لأصدقاء ثقيلي الظل (فأر أو حشرات زاحفة).

كُثرٌ منّا وصل إلى بر الأمان على شواطئ أوربا بقصص مختلفة وبأوقات طالت وأخرى قصرت، و كثر منّا أيضا وصلوا الى قمة الأمان والراحة النفسية في قعر البحر ليعرجوا إلى السماء بعد ذلك، أيامهم الأولى في الأسفل صعبة لكن سيعتادون حياتهم الجديدة دون ضوء دون غطاء دون طعام بعد أن اضحوا يُؤكَلون بدل أن يأكلون، والدليل إذا صادفتم يوما قرشا في البحر اسألوه عن طعم السوريين !! علّه احب أحمد او فاطمة اكثر من أبيهم ؟!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.