شعار قسم مدونات

سراب النزاع وأحقية التعايش

blogs - quran
كنت ولاأزال أراقص نغمات فكري على أوتار أعظم آخر حضارتين متتاليتين شهد البحر بينهما شدا بين ثقافتين، كان التأثير والتأثر فيهما مليء بكل التنوع والتناقض والاختلاف، كانت الشعوب فيهما تغترف من الحب أكثر مما تنهمر دماؤهم بالسيف، إنه الشرق العربي والغرب الأوربي.

هنا يكمن بيت قصيدي وهنا تتيه المجاري وتغترب عن روافدها، وهنا تتقلد الذاكرة وسام النسيان ويشرد التوأمين بعد قتل أميهما ويغرس العدوان. لم يكن الإسلام في العصور الوسطى إلا سماحة للمسيحيين، ولم أشهد من المسيحيين وأنا أعيش بينهم إلا سماحة للمسلميين، وأنا هنا لا أحبذ الغوص في وحل الشذوذ.

كثيراً ما نسمع عن المؤامرات الغربية ومخططاتهم للنيل من الإسلام، والضغط بأخماصهم فوق هوامنا حتى لا نبصر من الأفق ذاك الشعاع الذي بسط من ثغر حضارتنا يوماً نور السماحة والعلم، مضيئاً لنا مكان مصيرنا المفقود.

لم أطمس من مخيلتي فتحنا ولا استعمارهم كما لم يغب عن ناظري سرب التواصل المعرفي الذي كان يهاجر أينما استقر مؤشر بوصلة القوة بين شاطيئيهما، لم أستطع كلما شدت فيروز بموشحاتها استيضاح الغدر من الإخلاص.

تلك الموشحات الآتية من الأندلس و التي طفح شذاها من ذخائر اللغة حتى انسكب زلاله فيضا شعائريا على شعراء التروبادور، فكانت البذرة الأولى لكل التحولات بدءاً من ميلاد اللغات الأوربية جلها وانفصامها عن اللاتينية، إلى الحس المرهف والذوق العالي الآتي من براعة الشعر العربي وشعرائه، ولغة لم يستطع التعبير الإنساني أن يغادره إلى سواه، خصوصا بعدما أحل به القرآن فصولا من الفصاحة والبلاغة والاختصار مع فيض المعنى.

لا يهم إن كان التحرر من كل شيء هو الإله الجديد، الأهم هو التعايش الذي يجب أن يستمر رغم الحروب

لقد تراءت لي لغتنا حمالة لكل المعاني وقد استشرق منها دانتي أبو اللغة الإيطالية كوميدياهُ الإلهية من وحي النبوة، فصور جنته وناره وبينهما الأعراف حتى غدت كتاب وحي استبدل الإنجيل فيه أكثر الناس دينهم، ثم انقض النقد عليه لينزله من مرتبة العبودية إلى عبقري جعل من النقل وحيا لإبداعه.

وتراءت لي بعد أن أصبحت ثغرا عذب القبل وحلو الريق وقد ألهمت كل أوربا محاسن الذوق والتعبير، حتى إذا ما شبت واستقوى صلبها أصبحت أفعى وغدت اللغة حنونا، أخذته الرأفة في لفيح البرد بها ليتأبطها فتحيا من دفئه، ولكن الأمر كان أشد قسوة عندما استقوت الأفعى من دفئه فتلدغه لدغة الموت الغادر، ذلك عندما بزغ منهم أمثال ميكيافيلي وقد أصبح كتابه الأمير سلوك كل حاكم مستبد، أحال ثمار الكرم شوكا حتى بدون أزهار، وأمثال نيتشه وقد رفع قانون الغاب مكان مكارم الأخلاق، يجعل فيها القوي وإن كان ظالما صاحب الحق والحقيق بالحياة دون غيره، وكذلك كان مسار فرويد وماركس وداروين وأمثالهم.. وكل قد استفرد بجانب من رقي الحضارة العربية والإسلامية طعنا بكل باطل وشبهة، مستغلين تناقضات التعاليم المسيحية والصورة التي اكتشفوها بتنوير المسلمين والحريات الفكرية التي كانوا يتمتعون بها في أوساطهم وعقر ديارهم.

لا يهمني إن كانت بروتوكولات صهيون أو ماسونيتهم، إذ يمكرون ومكر الله أقوى، أو إن كان التحرر من كل شيء هو الإله الجديد، أو ما يخطر ببال كل محلل وناقد، ولكن الأهم هو التعايش الذي استمر رغم كل الحروب وكل التناقضات، وهو أقوى إلى الدرجة التي يستحق من أجلها الحياة فوق كل الأنقاض.

يجب أن نروي عروقه من دماء الحب وإن اختلفت المبادئ والديانات، وهو القرطاس الذي سيسطر عليه القانون العالمي الجديد، نها ليست الأماني او وعد حالم متخيل بقدر ما يعنيه الألم الذي يسمع فوق كل الجنبات، ورب خير عظيم لا يولد إلا من رحم شر مستطير.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.