شعار قسم مدونات

الحركات الإسلامية بين قوة الواقع وضعف استشراف المستقبل

blogs-جماعة

من السهل على أي متتبع لشأن الحركات الإسلامية في العالم و في الوطن العربي بالخصوص ، أن يلاحظ الفرق الشاسع بين الثوابت التي قامت عليها الحركات الإسلامية إبان نشأتها في القرن الماضي، و بين مقومات العمل لديها في العصر الحاضر.
 

خصوصا من حيث مواقفها حيال بعض المفاهيم السياسية الجديدة آنذاك كمبادئ الديمقراطية و حقوق الإنسان ، واعترافها ببعض التوجهات السياسية الأخرى ذات الحمولة الثقافية الغربية ، التي كانت تعمل على علمنة الدولة عبر فصل الدين عن الدولة ، و الدعوة إلى احترام الحرية الفردية ، و ما يرتبط بها من حرية التدين من عدمه.
 

اتسم المشهد السياسي في حقبة القرن العشرين بين الإسلاميين و نظرائهم التحررين بالصراع أكثر ما اتسم برغبة في الحوار ومحاولة التوصل إلى حلول

تلك الحركات كانت ترفض في الماضي كل ما له علاقة باللائكية أو الاشتراكية أو الرأسمالية ، و التي كانت تعتبر بالنسبة لهم سوى جاهلية القرن العشرين التي جاءت لتحارب الدين و تنتشل كل ما هو إسلامي من حياة المسلمين.

بالتالي فالعلاقة التي كانت تربط أصحاب التفكير الإسلامي بهؤلاء المتنورين في ذلك الوقت لم تكن سوى علاقة تصادم ، تجلت في صراعات فكرية عبر إصدار منشورات مكتوبة و مرئية و مسموعة ، و مناظرات وسط أغلب الجامعات العربية يدعو فيها الإسلاميون إلى الابتعاد عن كل ما له علاقة بالحضارة الجديدة، و التي جاءت لتدعو إليها تلك الحركات.

هذه العلاقة المتشابكة التي كانت تميز المشهد السياسي العام ، لم تنتج لنا سوى أفكار في أغلبها اتسمت بالطابع الهجومي، يقابله في الطرف الآخر فكر يضطر للدفاع عن أسسه، إما بالرجوع إلى الماضي لإثبات تأصله في حياة المجتمع ، أو بالإستنجاد بالمستقبل لطمأنة الرأي العام لما يتم الدعوة إليه .. و في كلتا الحالتين تبقى هذه الدعوات بعيدة عن لمس الواقع الحقيقي الراهن للمجتمع الذي يواجه مشاكل عديدة ، مرتبطة بتدني مستوى التعليم و اتساع الهوة الطبقية بين الفقراء و الأغنياء و تفشي الفساد الإداري في كل مؤسسات الدولة.
 

باختصار، اتسم المشهد السياسي في حقبة القرن العشرين بين الإسلاميين و نظرائهم التحررين بالصراع ، أكثر ما اتسم برغبة الطرفين في الحوار، و محاولة التنسيق من أجل التوصل إلى حلول، تؤسس لبناء مناخ تشاركي للخروج من أزمة الانحطاط الذي كان يعرفه المجتمع العربي.
 

في المقابل و في نهاية العشر سنوات الأخيرة من القرن الواحد والعشرون أصبحنا نرى العديد من التغيرات التي أصبحت تميز موقف كلا الطرفين اتجاه العلاقة مع الآخر ، سواء موقف الإسلاميين من بعض مبادئ الحركات التحررية كقبولهم لمفهوم الديمقراطية ، و مشاركتهم العمل السياسي و قبولهم الجلوس على طاولة واحدة للحوار، و مشاركتهم لبعض في الدفاع عن حقوق الإنسان.
 

و من جهة أخرى الموقف الذي اتخذه بعض العلمانيين في قبول الدين الإسلامي كأرضية مشتركة تجمع الجميع، والدفاع عن المعتقلين بغض النظر عن توجهاتهم العقدية و السياسية، بالإضافة إلى مد جسور التواصل بينهما على مواقع التواصل الاجتماعي مثلا أو منصات اللقاءات السياسية في أغلب المنابر الإعلامية الحديثة.

الواقع الذي أصبح مختلفا بشكل واضح عن واقع الحركات الإسلامية في الماضي يمكن أن نعتبره واقعا صحيا لكلا الأطراف التي تناضل من أجل مصلحة المواطن العربي

قبول هؤلاء النظراء لبعضهم البعض أصبح يتجلى بوضوح عبر الكثير من المراجعات التي أصبحت تربط بينهما ، و تتجلى للسطح عبر الدعوة للحوار من أجل الخروج من المأزق السياسي الذي تشهده الساحات العربية في مواجهة الديكتاتورية السياسية، التي تأكدت لهم حينما حاولت السلطات المتحكمة لأغلب الدول العربية وأد التحركات السياسية التي ميزت فترة الربيع العربي، و الذي كان سببا رئيسيا في تقريب المسافة بين حركات الإسلام السياسي في الوطن العربي و خصومهم التاريخيين من الحركات التحررية الأخرى.
 

و كان لافتا للأنظار قوة الالتحام بينهما في الربيع العربي عبر المظاهرات و المسيرات المختلفة التي أثبتت أن التقارب بينهما كاد أن يحدث فارقا في اللعبة السياسية إذا توفرت له بعض الشروط، ربما من أهم تلك الشروط الوضوح و النزاهة و إنكار الذات من أجل مصلحة الجميع و هو الشيء الذي لم يتوفر لديهم آنذاك ، مما أدى إلى فشل التنسيق بينهم ، فاستطاعت بذلك الأنظمة القمعية على اختراق تنظيماتهم التي لم تصمد طويلا أمام تلك الهجمات.
 

قوة هذا الواقع السياسي الذي ميز المشهد العام للإسلاميين أصبح يفرض عليهم التكيف معه عبر التقرب المحتشم من الفرقاء السياسيين الذين يشكلون البناء السياسي للدولة فيما بعد ، سواء تعلق الأمر بالأحزاب التقليدية التي تشارك في تسيير الشأن العام ، أو بالأحزاب ذات التوجه اليساري التي حاولت بدورها أن تدخل غمار هذه المشاركة السياسية عبر آلية الانتخابات. 
 

هذا الواقع الذي أصبح مختلفا بشكل واضح عن واقع الحركات الإسلامية في الماضي يمكن أن نعتبره واقعا صحيا لكلا الأطراف التي تناضل من أجل مصلحة المواطن العربي ، و الذي يمكن أن يتطور ليصبح حلقة جديدة في مسلسل التعاون بينهما من أجل هدم الهوة التاريخية التي ميزت مرحلة الصراع بينهما لعقود طويلة قد خلت.
 

لكن السؤال هنا سيكون على الشكل التالي :

لماذا سنضيع على هذا الجيل و من بعده حلاوة التمتع بنخبة تجتمع من أجل مراجعات عامة تكون في صالح المواطن العربي بدرجة أولى لتحسين وضعيته؟

ماذا لو تم استشراف مستقبل هذه العلاقة من طرف هذه الحركات الآن ، في محاولة استدراك الوقت الذي سيضيع في هذه الصراعات التي لا محالة ستضفي إلى توطيد العلاقة بينهما مستقبلا و تعزز من أسس التعاون السياسي بينهما للوصول إلى شراكة حقيقية تجمعهما من أجل تسيير الشأن العام؟
 

و لماذا لا يتم التنازل عن بعض المواقف التي ستكون في المستقبل غير موجودة أصلا ، و تسبيق المصلحة العامة على المصلحة الخاصة لكل من هذه الحركات؟
 

ماذا لو تم استدراك كل تلك السنوات التي ستضيع في مناظرات فكرية جوفاء ستتبخر عبر الزمن و تستبدل بأفكار و مواقف أخرى يفرضها المستقبل؟
 

لماذا سنضيع على هذا الجيل و من بعده حلاوة التمتع بنخبة تجتمع من أجل مراجعات عامة تكون في صالح المواطن العربي بدرجة أولى لتحسين وضعيته الآن وعدم انتظار كل السنوات القادمة من أجل لحظة سياسية يمكن عيشها في الحاضر و كسب الوقت من أجل تغيير أفضل؟
 

الجواب يملكه كل من الإسلامي و صديقة اليساري الذين يمكنهما في لحظة تاريخية واحدة تخيل المستقبل و بنائه اليوم، وهدم كل الحواجز الوهمية بينهما، و عدم انتظار الغد من أجل تغيير ما يمكن أن نغيره الآن.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.