شعار قسم مدونات

الثنائيات بين الثورة والسياسة

blogs - uuuuuuu
ولأن الحياة قائمة على مبدأ الثنائيات المتضادة فيما بينها؛ فالخاسر الأكبر -بما ربح- هو الواقع في الحيز الفاصل بين مكوني الثنائية. ولأن السياسة مكون من مكونات الحياة، فهي خاضعة لمبدأ الثنائيات، ففي كل مسألة هناك من يقف مع، وهناك من يقف ضد. وهناك من يقف بين بين، لا هو انتمى للأول، ولا هو انتمى للثاني.
في الثورة السورية، كما في بقية الميادين السياسية، ازدهرت الثنائيات؛ بسبب كثرة القضايا الجدلية ـالطبيعية منها والمصطنعة ـ وباتت الثنائيات همًا شاغلًا، له إسقاطاته المحسوسة والمؤثرة على الشارع السوري. من بين تلك الثنائيات، تلك المتعلقة بحزب «الاتحاد الديمقراطي الكردستاني» بزعامة «صالح مسلم»، ولعلها ـ اليوم ـ من الثنائيات الجدلية المثيرة للمتابع عن بعد، وللمنخرط في خضم الثورة السورية سواء، وكذلك الأمر بالنسبة للإقليم المجاور ـ بتراميه ـ لما لانعكاس هذه الثنائية من ارتدادات تؤثر سلبًا وإيجابًا على حاضر ومستقبل المنطقة بمن فيها.

التناقض في الثورة السورية يعطي هذه الثنائية زخمًا استثنائيًا، إذ كيف يمكن أن تجمع بين الثورة والاحتلال، والتحرير والانفصال، والوطنية والعمالة!

جنح البعض لاعتبار ما يقوم به حزب الاتحاد الديمقراطي الكردستاني مشروعًا انفصاليًا، له ملامحه الواضحة المكتملة، والتي لا ريب فيها، لا ينكرها، إلا من «يتمترس» خلف هذا المشروع، توريةً وتزييفًا للحقائق ريثما يستتب له الأمر بعد أن يفرض واقعًا يقبل به الجميع حتى لو رفضوه؛ لأنه واقع القوة.

 وجنح البعض الآخر لاعتبار ما يقوم به حزب الاتحاد الديمقراطي الكردستاني عملًا ثوريًا يتخذ من خليط «ماركس ـ تشي جيفارا» خطًا لسيره، وبرر من خلال هذه الرؤية وجود العناصر الأجنبية في صفوف مقاتلي الحزب، متغنيًا بتضامن الإنسانية مع النضال الثوري للحزب.

بالعودة للرؤيتين؛ فالأمر يشكل ثنائية: يتميز مكوناها بأنهما على أقصى درجة من التناقض، فكلاهما يدعي الحق، وكلاهما يتهم الآخر بالعمالة، وكلاهما يرى أنه المنقذ المخلص، وكلاهما يعتبر نفسه المخول الشرعي بتصنيف بقية الفرقاء. هذا التناقض ليس بالغريب؛ بل يعطي هذه الثنائية زخمًا استثنائيًا، يجعل المواقف متباعدة لا يمكن التوسط بينها؛ إذ كيف يمكن في الثورة السورية أن تجمع بين الثورة والاحتلال، والتحرير والانفصال، والوطنية والعمالة!

إنما الغريب في الأمر، بل أذهب أبعد من ذلك لأقول: إن المقزز في الأمر هو ما يقوم به بعض الذين يطرحون أنفسهم كممثلين سياسيين، يتمسكون بالمناصب والألقاب أكثر مما يفعل بشار الأسد ذات نفسه، وفي سبيل البقاء داخل وتحت بقعة ضوء المناصب؛ لا ينفكون يبتدعون المواقف التي لا يمكن وصفها ـ في أحسن الأحوال ـ إلا بالنشاز، ووصفها الحقيقي، أنها لهث حميم وراء المنفعة الشخصية، مهما كان الثمن البديل لها.

أنظار العالم تلاحق داعش أينما حلت وارتحلت، والعالم بأسره يراقب اليوم ما يجري حول «منبج» من حربٍ بين حزب «الاتحاد الديمقراطي الكردستاني» و«داعش»، والناس منقسمون، وكذلك أهل الرأي والسياسة، بين مؤيد لصالح مسلم ومعارضون له.

 التأييد والمعارضة لصالح مسلم في الحالة المنبجية؛ كونه المنقذ الوحيد من جحيم داعش الذي لاح في الأفق أمام الناس، المنقذ الذي حضرته إدارة أوباما، وجهزته وأعدته ليكون المنقذ، والمنقذ الوحيد حصرًا؛ لئلا يكون للناس خيارٌ آخر سواه، إلا البقاء تحت جحيم داعش. هلل بعض العامة لمن يفترض أنه أنقذهم من داعش، فالعامة بسيطة، مغلوب على أمرها، عانت من ويلات داعش ما لا مثيل له، ومن الطبيعي، وفي ظل غياب أي منقذٍ آخر محتمل، أن يعبروا عن شكرهم وامتنانهم ـ بالفطرة ـ لمن أخرجهم من هذا الجحيم الداعشي .

موقف العامة الأولي هو ردة فعل فطرية، ما لبث أن تطور، وتسارع وتبلور في ظل الممارسات القمعية لحزب الاتحاد الديمقراطي الكردستاني وعناصره الذين لم يتركوا دجاجة في القرى، إلا وجعلوها من تعداد غنائمهم. تم تفريغ البيوت من أهلها؛ بحجة الكشف عن الألغام، ومنع الأهالي من العودة لمنازلهم؛ ليتكرر سيناريو «تل رفعت»، ومن قبلها «تل أبيض»؛ ليبدأ العامة في فهم ما جرى، ولتبدأ رحلة الشقاء في العراء، فالتحرير لم يكن تحريرًا، إنما استبدالًا بمحتلٍ يحاربه العالم محتلًا يدعمه العالم. أفهم وأبرر موقف العامة البسطاء، لكن الذي لا يبرر، هو أن يطرح بعض أهل السياسة أنفسهم كحالة وسطية بين الاحتلال والتحرير!

الفئة الرمادية تضع البلاد على ناصية مفترق للطرق، إما البقاء تحت علم موحد جامع للعباد تحت سقف البلاد، أو التقسيم بقوة السلاح احتلالًا لا لبس فيه.

أفتش في قواميس الثورات ـ كل الثورات ـ عن سندٍ يرتكز عليه موقف تلك الفئة العبقرية؛ فلا أجد، أعود لأفتش فيما سقط سهوًا من تاريخ الشعوب، فلا أجد إلا وصفًا متفقًا عليه بين العامة وأهل السياسة سواء، هو: الفئة الرمادية. الفئة الرمادية، التي تسعى جاهدة لإمساك الحبال من منتصفها، لتبقى على مسافة واحدة من الجميع؛ بحيث تضمن مكانها حيثما مالت الكفة؛ فلا تخرج من حفلة توزيع الجوائز بدون حصة مرضية لها.

 الفئة الرمادية، التي لم تفهم أن الثورات غير قابلة للحياد، وأن الحياد يكون في أمر معيشي من شؤون العامة، لا في أمر مصيري، يضع البلاد على ناصية مفترق للطرق، إما البقاء تحت علم موحد جامع للعباد، تحت سقف البلاد، أو التقسيم بقوة السلاح، احتلالًا لا لبس فيه.

الطامة الكبرى، أن هذه الفئة الرمادية تحاول فرض نفسها كممثل سياسي عن الناس، الناس التي عانت وتعاني الويلات بأنواعها، بينما لم يكتف أهل الفئة الرمادية بمناصبهم السابقة، بل يحاولون الاستمرار في حديقة المناصب، وإن كان على حساب الثورة، و إن كان الأمر عبر اعتبار المحتل طرفًا سياسيًا، يقتصر خلافهم معه على الرؤية، والطريقة، وإن كان عبر اعتبار أدوات المحتل أصدقاء، لا يمكن التخلي عنهم من باب التواصل الإنساني.

كفوا أطماعكم عن ثورتنا، وارجعوا إلى رشدكم؛ قبل أن يسبق التاريخ خطواتكم؛ فتصنف أسماؤكم في خانة «باعة الأوطان». ولأن الحياة قائمة على مبدأ الثنائيات المتضادة فيما بينها؛ فالخاسر الأكبر ـ بما ربح ـ هو الواقع في الحيز الفاصل بين مكوني الثنائية؛ فلا تكونوا عن سابق قناعة في هذا الحيز.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.