شعار قسم مدونات

من المنبر إلى المدونة

blogs - jazeera - channel
فتح باب البيت مسرعًا واضعاً الأكياس عند الباب، وخلفه والدتي تلهث عناء المشي السريع، ركض إلى "ريموت" التلفار وأخذ يبحث في القنوات طالبًا معشوقته، كانت والدتي أشد حرصًا منه على أن يصل معشوقته في الموعد المناسب حتى لا تتحمل وزر تأخره عنها لخطواتها البطيئة.
 
"لأن هذا الضيف لن أستطيع سماعه وسماع شهادته والحقائق التي عايشها إلّا من خلال هذه القناة" كانت هذه إجابة والدي المعتادة مبررًا من خلالها ضروة لقائه بجزيرته.

لم أكن أشارك والدي هذا الاهتمام، فلا شخص الضيف أعرفه، ولن يغريني أن أطلع على معلومات روايته الخالية من المرح واللعب واهتمامات طفلٍ بعمري، ولا فرصة استماعه تعتبر حدثًا منتظرًا أو فريدًا بالنسبة لي.

مع مرور السنين، سقط في غرام هذه المعشوقة أخي الكبير، فزاد حضورها في المنزل حتى أضحت فردًا من أفراد العائلة، لم أكن أستوعب ما الجديد الذي سيضيفه حوار ذاك الشاب النحيل الذي يدعى ماهر عبدالله "رحمه الله" وضيفه الشيخ الكبير في العمر إلى معلومات أخي رغم أنه يحضر خطبة الجمعة في مسجد الحي باستمرار، كان يقول لي دائمًا بأنه يحفظ عن ظهر قلب، أحكام الصلاة وكيفية الوضوء وغيرها من بديهيات الدين التي يعرضها خطيب المسجد كل جمعة، ولكنه يجد عند معشوقته ورجالها الكثير مما لا يتم تداوله في المسجد، حتى والدي كان يؤيده ويقول بأن هذا البرنامج هو التجسيد الصحيح لخطبة الجمعة المعنية شرعًا "على حد وصفهما" بأحوال العباد ودور الدين فيها، أكثر من شرح أحكام الدين التي يعرفها الصغير قبل الكبير.

اليوم وبعدما تطورت الحياة وتسارعت أحداثها، وزادت مشاغلي وهمومي، أصبحت بحاجة لأن أروي أنا ما عندي، أن أقول ما أدفنه في مكنون صدري

استمر حال العائلة على هذا النحو، لم يضرني ذلك ما داموا بعيدين عن شاشة التلفاز وقت برامج الأطفال، حتى انفجرت انتفاضة الأقصى، فتربعت تلك الجزيرة في بحر العائلة، محلّلًا من هنا، مراسلًا من هناك، واتصال هاتفي بينهما لا يجرؤ مراهقًا مثلي أن يقاطع كلامه، وكيف أقاطعه وهو من قلب الضفة الغربية يروي تفاصيل دقيقة، وأرى والدي وأخي مشدودين لكلماته لدرجةٍ تظن أنهم فعلّوا خاصية "حجب الصوت" على أفواه الجالسين، فالمنبر منبر المتصل، ونحن الحضور المستمعين.

لم تكد تمر السنين حتى كبُرت وكبرَت اهتماماتي، هجرت برامج الأطفال وأصبحت متباعًا رياضًا شغوفًا، شاءت الأقدار وتعرفت على الشقيقة الصغيرة لرفيقة دربهم، البرتقالية الرياضية، قالتها والدتي في ذلك اليوم، بأن نسبًا أصبح يجمع عائلتنا بعائلة الجزيرة، بمهر الاهتمام والمتابعة.

لا أنكر أن اهتماماتي السياسية أصبحت لا تقل عن والدي وأخي، يبدو أنها جينات تتوارثها العائلة، ظهرت ملامحها في بداية هذا العقد كمتلازمة لحالة النسب بين العائلتين، وأصبحت أخبار هذه العائلة شغلنا الشاغل، فإن فاتك شيئ في ميدان التحرير، ستجد بالضرورة فردًا في العائلة يروي لك ما فاتك، وإن تطورت الأحداث في أي بلد من بلاد ثورات الربيع العربي، ستكون الرواية المقبولة والمصدقة لنا هي رواية أنسبائنا.

اليوم وبعدما تطورت الحياة وتسارعت أحداثها، وزادت مشاغلي وهمومي، أصبحت بحاجة لأن أروي أنا ما عندي، أن أقول ما أدفنه في مكنون صدري، أحتاج صديقًا يسمعني، يسمع ما يجول في خاطري دون أن يقاطعني، حاولت سابقًا أن أطلق العنان لحروفي في صحيفة هنا أو هناك، فوجدت أفكاري مجتزئة، وحروفي خضعب لجهاز رقابة يقتل الروح فيها، أصرخ بهمومي في وسائل التواصل الإجتماعي بين الحين والآخر، ولكنني بحاجة لمستمع جيد، بحاجة لأن أتحدث دون رقيب على حروفي، لا ضير لدي فيمن يختلف معي، ولكن ضوابط الإختلاف أراها معدومة في تلك الوسائل، ذلك ينشغل بمهاجمة الشخوص لا مناقشة الأفكار، وآخر يرى الهموم ظاهرة على حروفي فيبادرني بالسؤال عن أحوالي أو التعبير عن إشتياقه لي، وكثيرون مشغولون بأشياء آخرى بعيدةً عن همومي، واستمر الحال على ما هو عليه حتى جاء الفرج من رفاق الأمس، من الخل الوفي، معشوقتنا أقبلت بمولود بديع الخلق.. المدونة.

الجزيرة فكرة، والفكرة لا تموت، ومن كان الإنسان اهتمامه، والثقافة والمعرفة عنوانه، والحرية هواؤه، لن يبخل على أقلامنا وحروفنا بما تحتاجه، ومن قدّم لنا في الأمس منبرًا، لا عجب بأن يجود علينا اليوم بمدونة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.