في المشفى قد يجدُ ذلكَ الإنسانُ – إن ابتسمَت له الأقدار – من يُضمّدُ جراحَه ويكتمُ خبرَه، فزبانيةُ الحاكمِ في كلِّ مكانٍ تبحثُ عن صيدٍ فريدٍ مثله |
فتبدأُ بذلكَ مرحلةُ التدافعِ الكوني، ويدورُ صراعٌ عظيمٌ بين الثائرِ الحالم والحاكمِ الظالم، يُكشّرُ فيهِ الأخيرُ عن أنيابهِ وينهشُ ذلكَ الجسدِ المعذبِ المتعب، ويُقَتّلُ أبناءَ الذين آمنوا ويسبي أرضَهم وديارهم، ويمثّلُ بالأحياءِ منهم قبلَ الأموات. وكأيِّ ثورةٍ للحرّية يقاتلُ معها وفيها رِبّيونَ كثير، فما وهنوا لما أصَابهم في سبيل الله وما ضَعفوا وما استكانوا، وإنما احتسبوا الأجرَ عندَ ربِ العالمينَ سبحانه، وهم رَغمَ الجراحِ والآلام يقينُهُم بأنَّ فرجَ الله آتٍ لا مَحالة، وأنّ النَصرَ فوقَ الرؤوس ينتظرُ الأمرَ الإلهي ليعمَّ البلادَ والعباد.
يُنقلُ هؤلاءِ الجرحى المضرّجينَ بدمائهم لتلكَ المشفى الكئيبة، راجين معونةَ من أقسمَ في سالفِ الأيام على علاجِهم مهما صَعُبَت الظروفُ واشتدت الأحوالُ والأهوال.
إن نظرةٌ مشفقةٌ من مسعفٍ، تفوقُ أقوى مسكناتِ الألمِ ومهدئاته؛ وعينٌ متعبةٌ تسهرُ على راحتهِ كافيةٌ لأن تُعيدَ له روحَه المسلوبة. |
هكذا أُغلقَت المشافي وأُوصدت أبوابُها لكلِ مستنشقٍ لعبقِ الحرية، ولكنّ مشكلةَ الجرحى لم تُحل بل تطورَت مراحلها وعَظُمَ همّها، فالأعدادُ تتضاعفُ والصرخاتُ تتعالى؛ فأصبحَ التفكيرُ بإسعافِهم خارجَ تلكَ المنظومةِ الطبية ولو بأبسطِ الإمكاناتِ هو الخيارُ البديل، فأن تحاولَ ذلك.. خيراً من أن تقفَ تنتظرُ المصيرَ المحتمِ لهؤلاء المستضعفين، بين جريحٍ ينزفُ للموتِ أو أسيرٍ مصيرهُ معروف.
فأنشأَت تجمعاتٌ طبيةٌ صغيرة، قَوامُها بعضُ أدواتِ الجراحةِ والضمادِ وما خفَ حملُه من أصنافِ الأدوية، وتقعُ في مكانٍ ما فوقَ الأرض أو تحتها لا تصلُ إليهِ أيدِ الظالمين ولا يخطرُ أصلاً على بالهم.
كانت تلكَ النقاطِ على بساطتها، وضعفِ إمكاناتها، توفرُ لذلكَ المسكينِ الأمنَ والمواساة التي لا توفرُها أعقابُ البنادقِ وسياطُ الجلادين التي يُضرب بها مراراً في مشافي النظام.
فنظرةٌ حنونةٌ مشفقةٌ من مسعفٍ، تفوقُ أقوى مسكناتِ الألمِ ومهدئاته؛ وعينٌ متعبةٌ تسهرُ على راحتهِ كافيةٌ لأن تُعيدَ له روحَه المسلوبة.
ويقفُ ذلكَ الطبيبُ المشردُ الملاحقُ لينظرَ بعينِ الرضى والقبول لجريحٍ استطاعَ أن يضمّدَ جراحهُ ويخففَ آلامه؛ كما ينظرُ بعينٍ تفيضُ من الدمعِ وألمٍ يعتصرُ في القلبِ لجريحٍ سهرَ بجانبهِ ليلاً طويلاً وهو ينْظُرَه ليموتَ ويفارقَ الحياة؛ لا لأن ذلكَ المنظرِ بديعٌ يسرُ الناظرين، بل لأنَ جبابرةَ الأرضِ لم ييسروا له إجراءَ عمليةٍ جراحيةٍ بسيطةٍ، كانت من الممكنِ أن تُنقذَ تلكَ الروحِ البريئة.
ولأنَ الأفكارَ النيرةَ تتفتقُ من الحاجة، فقد عَزَمَ ذلك الكادرُ الطبي على توسيعِ نقاطهمِ الميدانية لتشملَ غرفَ عملياتٍ بدائيةٍ، تعالجُ بها الجروحُ الخطيرةُ وترَمَمُ بها الإصاباتُ الواسعةُ فتُعينُ المصابينَ على تخفيفِ آلامهم.
وباشرت تلكَ الغرفُ الجراحيةُ عملها، وأجرَت أُولى عملياتِها الطبيةِ بنجاحٍ غيرِ متوقع؛ وتوالت النجاحاتُ وازدهرَ العمل، وتنامتِ الخبراتُ وتطورت؛ وبفترةٍ وجيزةٍ توسعَت هذه الغرفُ واكتملَت ملامحها، لتصلَ لشيءٍ يُشابهُ المألوفَ وإن لم يرقَى بعدُ له؛ إلا أن وجودَها في ذاته لا يقلُّ أهمية عن أقوى الإعجازاتِ والفتوحاتِ الطبية بكثير.
ولأنَّ المشافي لا تكتملُ صفاتها إلا باكتمالِ شروطِ الرعايةِ والعناية، فقد أُنشأت غُرفٌ لاستشفاءِ المرضى وإقامتهم، فكانت الرديفَ العمليَ لغرفِ العملياتِ تلك، تحولَت معها تلكَ التجمعاتِ الطبيةِ الصغيرةِ لمشافي ميدانية استكملَت أهمَّ أقسامها وفروعها.
ثم ما لبثت أن تُوجَت تلكَ المشافي بمنظوماتِ الإسعافِ التي تُوفر على الجريحِ مشقةَ القدومِ للمشفى ومخاطرَ النقلِ وأخطائَه، وزُوّدت بكوادرَ من المسعفين والمنقذين، الذين كانوا بحق أبطالَ هذهِ الحربِ ومقداميها.
والآن وبعدِ السنينِ الخمسِ بقليلٍ أصبحَ لدينا منظومةٌ طبيةٌ متكاملةٌ، تفوقُ المنظومةَ الطبيةَ للنظامِ أيامَ عزه؛ وما زالَ العملُ على تطويرها مستمراً لتشملَ مجالاتِ الإحصاءِ والبحثِ العلمي، وتدريبِ الكوادر الجديدةِ وتأهيلها، وصولاً لسوريةَ مختلفةً عما كانت عليه سابقاً، بلدٌ يبنى بسواعدِ أبنائهِ وعزائمِ أهلهِ ورغبتِهم في الحياة.
الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.