شعار قسم مدونات

قصتنا مع الجَرحى

blogs - wounded
هناكَ في ذلكَ العالمِ المنسي شعبٌ يتنفسُ تحتَ الظُلمِ والاضطهاد، بلغَ مِنهُ الجهدُ مبلَغه؛ يَسلُبُ أحلامَه جبروتُ الطغاة، ويبددُ آماله قمعُ الحكامِ وزبانيتهم، ومعَ ذاكَ الجبرِ المقيت ضيقٌ في الحال لا يخفىَ على ذي بال. ولأنّ ذلكَ الشعبَ حُرٌّ في تفكيره، حالمٌ في خياله، يَسعى لما يَسعى له البشرُ من حياةٍ عزيزةٍ كريمة، يتمتّعُ بها الإنسانُ بصفاتهِ البشريةِ كاملةً غيرَ منقوصة؛ فكانَ لابدّ لهُ أن يتمرّدَ على نواميسِ الطغاةِ وقوانينهم، ويثورُ على هذا الجبروتِ الأعمى، ومن ثَم يخرجُ من تحتِ عباءةِ الذلّ والاستبداد، ليضعَ قدميهِ على أولِ طريقِ الحريةِ المخضّبِ بالدماء.

في المشفى قد يجدُ ذلكَ الإنسانُ – إن ابتسمَت له الأقدار – من يُضمّدُ جراحَه ويكتمُ خبرَه، فزبانيةُ الحاكمِ في كلِّ مكانٍ تبحثُ عن صيدٍ فريدٍ مثله

فتبدأُ بذلكَ مرحلةُ التدافعِ الكوني، ويدورُ صراعٌ عظيمٌ بين الثائرِ الحالم والحاكمِ الظالم، يُكشّرُ فيهِ الأخيرُ عن أنيابهِ وينهشُ ذلكَ الجسدِ المعذبِ المتعب، ويُقَتّلُ أبناءَ الذين آمنوا ويسبي أرضَهم وديارهم، ويمثّلُ بالأحياءِ منهم قبلَ الأموات. وكأيِّ ثورةٍ للحرّية يقاتلُ معها وفيها رِبّيونَ كثير، فما وهنوا لما أصَابهم في سبيل الله وما ضَعفوا وما استكانوا، وإنما احتسبوا الأجرَ عندَ ربِ العالمينَ سبحانه، وهم رَغمَ الجراحِ والآلام يقينُهُم بأنَّ فرجَ الله آتٍ لا مَحالة، وأنّ النَصرَ فوقَ الرؤوس ينتظرُ الأمرَ الإلهي ليعمَّ البلادَ والعباد.

ومع كثرةِ الآلامِ والأوجاع ينبري لها ثلةٌ من عبادِ الله، صنَعَهُم اللهُ على عينيه واصطفاهُم لخدمةِ عيالهِ وعونهم، فهم مفاتيحٌ للخيرِ مغاليقٌ للشر، كيف لا.. وهم الذين كرّسُوا حياتَهم لما ينفعُ البشر، تراهم كالغيثِ العميمِ في البذلِ والعطاء، يؤلمهم ما يؤلمُ عبادَ الله، وتقضُّ مضاجعهم آهاتُ المعذَبينَ والجرحى، وكأنَّ ثِقلَ هذه العذاباتِ يُعيِهِم وحدَهم، فهم يعايشوها بكل تفاصيلها ودقائقها؛ يخوضون الصعابَ ليصلوا لذلك المعذّبِ الحزين، فيضمّدُوا لهُ الجراحَ ويسكّنُوا له الآلام.
فهنا جريحٌ مُدَمَّى يفترشُ الأرضَ ولا يقوى على الحراك، ذنبُهُ أنه قد فتحَ فاه في عصرِ الصمتِ المقيت؛ يقف حولَهُ الصحبُ والأحباب؛ ينظرون إليه بعيونِ الحسرةِ والألم؛ وعن يمينهِ وشماله يتأوهُ جرحىَ آخرون؛ ماذا نفعلُ لهم؟ يطولُ التفكيرُ كثيراً، ثم يَطول، وبعدها يأتي الجوابُ الوحيدُ بنقلهم إلى مشافي النظام! إلى مشافي النظام ؟ نعم أُخيَّ؛ فهذه هي الإجابةُ الوحيدة، ولا ثانٍ لها، واللهُ غالبٌ على أمره.

يُنقلُ هؤلاءِ الجرحى المضرّجينَ بدمائهم لتلكَ المشفى الكئيبة، راجين معونةَ من أقسمَ في سالفِ الأيام على علاجِهم مهما صَعُبَت الظروفُ واشتدت الأحوالُ والأهوال.

في المشفى قد يجدُ ذلكَ الإنسانُ – إن ابتسمَت له الأقدار – من يُضمّدُ جراحَه ويكتمُ خبرَه، فزبانيةُ الحاكمِ في كلِّ مكانٍ تبحثُ عن صيدٍ فريدٍ مثله. فواجبُ طبيبُ الثورةِ يتعدّى المهمةَ اليسيرةَ بعلاجِ الجريحِ إلى تهريبِهِ من محكمةِ التفتيشِ المسماةِ اصطلاحا " بمشفى" بأسرعِ ما يمكن، ضمن عمليّةٍ أقربُ ما تكونُ للخيال، أبطالها هم أهليهِ وبعض أطباءِ المشفى وممرضيها؛ فهذا يعالجهُ بسرعةٍ علّه ينقذهُ من الأسرِ لا من الإصابة، وذاك يثبّطُ عنه من خلفهُ من الحرّاسِ ويشتتهم، وآخرُ يحمله ويهربُ به على حين غفلة من الناس، إلى أن تتكللَ تلكَ العمليةِ بالنجاح إن قدّرَ لها اللهُ ذلك.
وتتالى الأيامُ وتتحولُ تلك المشافي المظلمةِ إلى خليةِ نحلٍ لجنودِ الحاكمِ وحرسه، يقفون فيها بالمرصاد للجرحى والمصابين؛ ومع ازديادِ صلفَهم وظُلمهم يتلاشى الأملُ بعلاجِ أي جريحٍ و مساعدةِ أي إنسان؛ فيعتقَلُ المصابَ من المشفى هو ومن يحاولُ إسعافهَ من أطباءٍ أو مسعفين، ويودعُ الجميع في غياهبِ السجون؛ وإمعاناً في الإجرامِ يُعدمُ هؤلاءِ جميعاً، وقد يُحرقُ حياً منهم مَن يُحرق أو تُمزقُ أجسادَهم ويُمثّلُ بهم؛ فلا رادعَ للنفوسِ المخلصةِ بنظرهم إلا أعلى درجاتِ الخوفِ والترهيب.

إن نظرةٌ مشفقةٌ من مسعفٍ، تفوقُ أقوى مسكناتِ الألمِ ومهدئاته؛ وعينٌ متعبةٌ تسهرُ على راحتهِ كافيةٌ لأن تُعيدَ له روحَه المسلوبة.

هكذا أُغلقَت المشافي وأُوصدت أبوابُها لكلِ مستنشقٍ لعبقِ الحرية، ولكنّ مشكلةَ الجرحى لم تُحل بل تطورَت مراحلها وعَظُمَ همّها، فالأعدادُ تتضاعفُ والصرخاتُ تتعالى؛ فأصبحَ التفكيرُ بإسعافِهم خارجَ تلكَ المنظومةِ الطبية ولو بأبسطِ الإمكاناتِ هو الخيارُ البديل، فأن تحاولَ ذلك.. خيراً من أن تقفَ تنتظرُ المصيرَ المحتمِ لهؤلاء المستضعفين، بين جريحٍ ينزفُ للموتِ أو أسيرٍ مصيرهُ معروف. 

فأنشأَت تجمعاتٌ طبيةٌ صغيرة، قَوامُها بعضُ أدواتِ الجراحةِ والضمادِ وما خفَ حملُه من أصنافِ الأدوية، وتقعُ في مكانٍ ما فوقَ الأرض أو تحتها لا تصلُ إليهِ أيدِ الظالمين ولا يخطرُ أصلاً على بالهم.
 

كانت تلكَ النقاطِ على بساطتها، وضعفِ إمكاناتها، توفرُ لذلكَ المسكينِ الأمنَ والمواساة التي لا توفرُها أعقابُ البنادقِ وسياطُ الجلادين التي يُضرب بها مراراً في مشافي النظام.
 

فنظرةٌ حنونةٌ مشفقةٌ من مسعفٍ، تفوقُ أقوى مسكناتِ الألمِ ومهدئاته؛ وعينٌ متعبةٌ تسهرُ على راحتهِ كافيةٌ لأن تُعيدَ له روحَه المسلوبة.
 

ويقفُ ذلكَ الطبيبُ المشردُ الملاحقُ لينظرَ بعينِ الرضى والقبول لجريحٍ استطاعَ أن يضمّدَ جراحهُ ويخففَ آلامه؛ كما ينظرُ بعينٍ تفيضُ من الدمعِ وألمٍ يعتصرُ في القلبِ لجريحٍ سهرَ بجانبهِ ليلاً طويلاً وهو ينْظُرَه ليموتَ ويفارقَ الحياة؛ لا لأن ذلكَ المنظرِ بديعٌ يسرُ الناظرين، بل لأنَ جبابرةَ الأرضِ لم ييسروا له إجراءَ عمليةٍ جراحيةٍ بسيطةٍ، كانت من الممكنِ أن تُنقذَ تلكَ الروحِ البريئة.
 

ولأنَ الأفكارَ النيرةَ تتفتقُ من الحاجة، فقد عَزَمَ ذلك الكادرُ الطبي على توسيعِ نقاطهمِ الميدانية لتشملَ غرفَ عملياتٍ بدائيةٍ، تعالجُ بها الجروحُ الخطيرةُ وترَمَمُ بها الإصاباتُ الواسعةُ فتُعينُ المصابينَ على تخفيفِ آلامهم.
 

وباشرت تلكَ الغرفُ الجراحيةُ عملها، وأجرَت أُولى عملياتِها الطبيةِ بنجاحٍ غيرِ متوقع؛ وتوالت النجاحاتُ وازدهرَ العمل، وتنامتِ الخبراتُ وتطورت؛ وبفترةٍ وجيزةٍ توسعَت هذه الغرفُ واكتملَت ملامحها، لتصلَ لشيءٍ يُشابهُ المألوفَ وإن لم يرقَى بعدُ له؛ إلا أن وجودَها في ذاته لا يقلُّ أهمية عن أقوى الإعجازاتِ والفتوحاتِ الطبية بكثير.
 

ولأنَّ المشافي لا تكتملُ صفاتها إلا باكتمالِ شروطِ الرعايةِ والعناية، فقد أُنشأت غُرفٌ لاستشفاءِ المرضى وإقامتهم، فكانت الرديفَ العمليَ لغرفِ العملياتِ تلك، تحولَت معها تلكَ التجمعاتِ الطبيةِ الصغيرةِ لمشافي ميدانية استكملَت أهمَّ أقسامها وفروعها.
 

ثم ما لبثت أن تُوجَت تلكَ المشافي بمنظوماتِ الإسعافِ التي تُوفر على الجريحِ مشقةَ القدومِ للمشفى ومخاطرَ النقلِ وأخطائَه، وزُوّدت بكوادرَ من المسعفين والمنقذين، الذين كانوا بحق أبطالَ هذهِ الحربِ ومقداميها.


والآن وبعدِ السنينِ الخمسِ بقليلٍ أصبحَ لدينا منظومةٌ طبيةٌ متكاملةٌ، تفوقُ المنظومةَ الطبيةَ للنظامِ أيامَ عزه؛ وما زالَ العملُ على تطويرها مستمراً لتشملَ مجالاتِ الإحصاءِ والبحثِ العلمي، وتدريبِ الكوادر الجديدةِ وتأهيلها، وصولاً لسوريةَ مختلفةً عما كانت عليه سابقاً، بلدٌ يبنى بسواعدِ أبنائهِ وعزائمِ أهلهِ ورغبتِهم في الحياة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.