شعار قسم مدونات

السيد حفتر(2): بين عسكرة السياسة وتسييس الجيوش

A man holds a picture of General Khalifa Haftar during a demonstration in support of "Operation Dignity" in Benghazi in this May 23, 2014 file photo. Growing frustration over the reality of life in eastern Libya, which contrasts with the promises of politicians, is feeding support for Haftar, who has set himself up as a warrior against Islamist militancy and who some also see as their saviour. REUTERS/Esam Al-Fetori/Files (LIBYA - Tags: POLITICS CIVIL UNREST)

في الشرق العربي حيث العراق العريق الغريق؛ كان أول انقلاب عسكري في المنطقة بقيادة الفريق بكر صدقي رئيس أركان جيش العراق سنة 1936.

وكانت الخطوة الأولى للانقلاب الأول في الوطن العربي إقصاء الساسة من التدافع السياسي، وعلى رأسهم ياسين الهاشمي الذي مات في لبنان منفيا لأن وطنه المتعدد بطبعه لم يعد فيه متنفس لغير أصحاب النياشين المنهمكين في مهمة تاريخية غير مقدسة، تتلخص في عسكرة الميدان السياسي عبر تسييس الجيوش، وقتل الروح العسكرية الدفاعية فيها، والتي من أجلها أسس الجيش.

لم يقف الأمر عند هذا الحد بل استمر مسلسل الانقلابات وتم الاستلاء على السلطة مرة أخرى في سنة 1941م، وقاموا بإقصاء الوصي عبد الإله، وقاموا بتأسيس حكومة الدفاع الوطني بقيادة الكيلاني.

لعل المشترك بين الانقلابين هو ثقافة الإقصاء المتجذرة في العقلية الانقلابية، وتأكيدا لكذب الشعارات والمزاعم التي يجعلها الضباط المغرورون على وجوههم حيث يعزمون على سرقة أحلام الجماهير.

هكذا هو فهم العسكر؛ صناديق الموتى بدلا من صناديق الاقتراع، ومقاصل الموت بدلاً من طاولة الحوار، لا يعرفون إلا حوارات الدم والأشلاء فهو الطريق المفضل لممارسة ضباط الهزائم للسياسة التي ما فتئوا يلوثونها بعقلية الدبابات، ولم تكن تجربة البعث العسكرية في حكم العراق بأحسن حالا من سابقاتها، ومآلتها السياسية معروفة حيث ضاعت العقيدة العسكرية إن كانت أصلاً موجودة.

وقد جزم العقيد الركن محمد الزيدي بذلك حين قال"مما لا شك فيه بأن الجيش العراقي لا يمتلك عقيدة عسكرية واضحة" ، وقد بدا من سقوط بغداد المفاجئ في سنة 2003م أن العساكر كانوا يبيعون الوهم للشعوب.

إن كل الشعارات كانت استلهابا فارغا لعواطف الجماهير التي صحت على هزيمة منكرة، واختفاء مخز للقادة العسكريين، ولا عجب أن يهزموا فإن ممارسة السياسة والالتزام العسكري متناقضان لا يجتمعان.

لم تكن سوريا الحضارية المجاورة للعراق بمعزل عن عسكرة السياسة الذي تميزت به الأنظمة الانقلابية التي أضاعت عقيدتها العسكرية في سبيل طائفية مقيتة؛ فالجيش السوري مر بتحولات كثيرة، من أهمها تسييسه بصورة كبيرة وهدم روحه الاحترافية في ظل حكم حزب البعث منذ ستينيات القرن العشرين.

الجيش السوري أصبح ملاذاً لطائفة علوية كانت مهمشة قبل انقلاب الأسد، ثم تعزز هذا الملاذ في زمن الرئيس السابق حافظ الأسد عبر تهميش طوائف أخرى، من أهمها الطائفة السنية التي تمثل أغلبية السوريين، وقد أدى هذا الوضع إلى إضعاف الجيش السوري وجعله أكثر ارتباطاً بتوجهات عائلة الأسد" .

إن عائلة الأسد التي هيمنت على السلطة في سوريا وأقصت الجناح المدني من حزب البعث نفسه بروح طائفية تسعى للهيمنة على كل شيء، وقد تم لها ذلك في سنوات 1971-2000 حيث كان حافظ الأسد هو الآمر الناهي في كل سوريا، ولم يقف دوره عند عسكرة السياسة فقط بل تعطلت السياسة بالكلية في سوريا بعد الصلاحيات التي انتزعتها الطائفة العلوية.

 وقد تزامنت تلك الصلاحيات الواسعة التي حظي بها الأسد بحماية طائفته وجناح حزبه العسكري وسكوت الجناح المدني الذي صار بَواًّ تزين به المحافل، ويمثل الواجهة المدنية للانقلاب العسكري الذي عطل الحياة المدنية والسياسية بشكل كامل.

وأما مصر المنكوبة بالأنظمة العسكرية المتعاقبة، فقد عبر جمال عبد الناصر عن التناقض الذي يعيشه الانقلابي العربي في كل الأزمة حين قال :" لا نريد سياسة داخل الجيش، ولكن الجيش كله قوة داخل السياسة الوطنية".

والحقيقة أن عساكر مصر منذ استيلائهم على السلطة سنة 1952 يحاولون إقامة نموذج للتطور الاجتماعي دون مشاركة من قبل الفئات السياسية المدنية ، وهذا ما انعكس على مصر سياسيا فجعل انتقالها إلى الاستقرار المدني مليئا بالآلام والآهات والأثمان الباهظة التي دفعها المصريون من قبل ولا يزالون.

يلاحظ القارئ في دور الجيش المصري السياسي أن الجيش تجاوز مسلمة عسكرة السياسة إلى مرحلة أخطر؛ وهي مرحلة المجتمع العسكري كما عنون أحد الراصدين لتاريخ المؤسسة العسكرية المصرية أحد كتبه بـ"مصر مجتمع عسكري".

هذا التمدد العسكري في مصر ومحاولة النفوذ السياسي جعل النافذين في المؤسسة العسكرية من الضباط ينشئون دولة أخرى فوق الدولة العادية التي دعاها يزيد صايغ، الباحث في مؤسسة راند، بـ" فوق الدولة: جمهورية الضباط" في دراسة بحثية كشفت عن تغول وهيمنة العسكر على كل شيء في مصر مما يناقض العقيدة العسكرية.

وقد قال الباحث يزيد صايغ إن وجود تلك الجمهورية الخفية يقف عائقا أمام وجود الجمهورية الحقيقية المختطفة في مصر منذ أكثر من ستين عاما من لدن عساكر تعودوا الهزائم في الميادين الحربية، والانتصار المهين على إرادة الشعب الأعزل، وزاد أن "جمهورية مصر الثانية لن تولد إلا عندما تزول جمهورية الضباط من الوجود".

حين تلقي نظرة غرب مصر ستجد تجربة انقلابية أخرى قضت على العسكر نفسه، ومحت المفردات السياسية من خريطة التداول في ليبيا،= عبر أربعة عقود من اللادولة، جماهيرية الفوضى وتدمير المؤسسات وحكم الفرد وتدمير مقدرات البلاد، هذا المسار المظلم الذي أوصل البلاد إلى الهاوية.

مغامرة لضباط أسقطوا الدستور واستولوا على الحكم وتركوا البلاد بعد أربعين حولا قاعا صفصفا، لم يستطع الشعب بعد إسقاطه للاستبداد أن يتعافى منه وسيظل يعاني من هوله عقودا قادمة.

وفي حدود ليبيا الغربية الجنوبية تقع الجزائر الشهيدة التي لا تزال تمسح عن جبينها الوضاء دماء سنوات التصدي للمستعمر، ولم يساهم جنرالاتها في تحول الجزائر إلى دولة مدنية تترجم من خلال صناديق الاقتراع بطريقة حضارية، بدلاً من الدبابات التي توقف زمن تقدم الجزائر ذات الإمكانيات البشرية الهائلة والموقع الجغرافي والثروات الطبيعية الكبيرة.

وفي حدود الجزائر حيث تقع موريتانيا أقصى دولة عربية في الغرب لم تنفع نصوص الدستور في كبح جماح الجيش من عسكرة السياسة وتسييس الجيش، فقد نصَّ الدستور الموريتاني والقوانين المنبثقة عنه على أن "رئيس الجمهورية المنتخب هو القائد الأعلى للجيش والرئيس الأعلى للقضاء، وأنَّ الجيش حامٍ للأمن والحدود"، وهذا بخلاف الممارسة الفعلية حيث اعتاد الجيش منذ عقود على تجاوز مجاله العسكري لينغمس في الحياة السياسية، مربكًا المشهد السياسي، حيث مثّلت الانقلابات العسكرية الطريق الأكثر سرعة إلى القصر الرئاسي".
لهذا يرفض الشارع الليبي حكم العسكر…

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.