شعار قسم مدونات

السمنة..بين التجربة والهرب (2)

blog سمنة
في هذه التدوينة نكمل ما سبق، و نستعرض أبرز ملامح قضية عدوتنا السمنة، فعندما عانيت وعايشت سمنة الأطفال وجدت أنها تُغير الملامح البريئة، وتطغى تلك الخدود الكبيرة على العينين الصغيرة، وقد كنت أمر بجوار السيارات أحياناً فأرى عبارة على مرآة السيارة مكتوبٌ عليها (الأجسام في المرآة أصغر وأبعد مما تبدو عليه في الواقع! فأتمنى أن أكون أنا بعضا من تلك الأجسام وأن الناس تراني أصغر مما أبدو عليه)، بل وأقول أن الأجسام الكبيرة داخلها أرواح أصغر مما تبدو عليه تلك الاجسام في الواقع.

جاءت مرحلة الحسم فيما قبل انتهاء الثانوية العامة بسنة دراسية، وكنت أعلم أنه من الصعوبة بمكان أن أجد الفرص متاحةً لي بشكلٍ جيد كالبقية

السمنة في الطفولة جاذبة لكل تهكم أو شتيمة من المحيطين بك بلا شعور أو لا مبالاة بمشاعر ومكنونات وعواطف هذا السمين الصغير، فيتزايد الضغط النفسي وتتفاقم المشكلة بمحاولة الهرب من الواقع المُر (بالأكل العاطفي) إلى الأمرّ منه باستمرار مضاعفة أرباح الوزن، مع قلة الإدراك من هذا الصغير بعواقب الأمور وما تؤول اليه عند الكبر.

في المدرسة في وقتنا كانت معدلات السمنة ليست كما الوقت الحالي، بل نادراً أن أرى سميناً، وكنت أتساءل في نفسي وأقول: تباً لها لم اختارتني أنا؟ وقد أكون لعنتها ذات يوم أيضاً.

قد يكون لأنني توددت إليها بالنوم الكثير والأكل الكثير والرياضة القليلة، أو أنني أفرطت في الود بانعدام النشاط البدني تماماً.
سنين طويلة وأنا أحاول من صاحبتي الفكاك أو الخُلع، أما برياضة لدقائق تقطع الأنفاس، أو بمشيٍ متثاقل الخطى أضيع به وقتي وأضحك به على نفسي.. والمسألة لا تتجاوز نظام يوم، ثم تعود حليمة إلى عادتها القديمة .

حتى على صعيد المشاغبات في الحصص الدراسية كانت السمنة تعيقني، فقد جربت ذات يوم الهروب من حصة اللغة الانجليزية التي غالباً ما يبرحنا فيها ضرباً الأستاذ رمضان بسلك كهرباء وجده في طريقه الرملي المؤدي به إلى المدرسة وقام بفتله وهو قادم يتمخطر، والله حاولت بشتى الطرق أن أجرب الحيلة بالتظاهر بالإغماء ويحملني زملائي المجاورين لي لإخراجي من الفصل كما يحتال الأغلبية ونحملهم على أكتافنا عند عدم حل الواجب ووجوب العقاب، إلا أن الزملاء كانوا يشيرون لي بأيديهم بالبقاء وعدم المغامرة فلن يستطيعوا حملي والخروج بسرعة بسبب ثقل وزني، إلا أنني غامرت و فعلتها وانضربنا جميعاً (بسلك الكهرباء المفتول) قبل أن تجتاز الفرقة الإسعافية أول صف من الطاولات، الله يسامحك يا رمضان.

جاءت مرحلة الحسم فيما قبل انتهاء الثانوية العامة بسنة دراسية، وكنت أعلم أنه من الصعوبة بمكان أن أجد الفرص متاحةً لي بشكلٍ جيد كالبقية، وأن أغلبية الجامعات والكليات من المُحال أن تقبلني بهذا الوزن الزائد الذي يصل الى 105 كجم لطالب في سن 17 عام .

وقفت واستندت على الباب من الداخل كي لا يراني أحد ورفعت رأسي للسماء مع أنفاسي المتسارعة المتقطعة وقلت بنفسي: إلى أين؟؟ إلى أين؟؟

تحمست للرياضة والمشي خصوصاً ، وقللت كميات الأطعمة واتبعت رجيماً قاسياً جداً لدرجة أنني بعد أسبوع واحد شعرت بالفرق في الوزن، وازداد الحماس بعد رؤية النتائج المميزة لأفقد في ثلاثة أشهر أكثر من 35 كجم وأهبط إلى 59 كجم، وجاءني مدير المدرسة واستدعاني من الفصل وقال لي غدًا لا بد أن تحضر لي تقرير طبي فقد يكون فيك مرض معدي أنهك قواك، لا حول ولا قوة إلا بالله ! المهم أنه قالها وانا بداخلي أطير فرحاً لأنني نجحت في إنقاص الوزن ولفت الانتباه بشدة.

لكن ماذا بعد؟
بعد أربع سنوات بدأت العودة التدريجية في الوزن وشعوري بالفشل ومعنى الفشل الحقيقي، ولم أستطع السيطرة على وزني على الإطلاق، فعملي في إحدى الصحف وقتها مع الدوام المكتبي الكئيب بالإضافة إلى مواصلة دراستي الجامعية وكثرة ساعات الجلوس وكثرة الأكل مع الأصحاب (للوجبات السريعة مع لترين من الغازيات) كانت أسبابا لفشل الثبات على الوزن المثالي، ويوماً بعد يوم وشهرا بعد شهر أجد أن هناك 5 إلى 10 كجم تزيد، حتى وصل بي الحال ذات يوم ( أنني اضطررت ومشيت خطوات بسيطة أمام البيت إلى بقالة الحي الصغيرة بدون استخدام السيارة، وما أن رجعت ودخلت وراء الباب وأنفاسي تتقطع كأنني كنت أركض لمسافات بالكيلومترات وأحمل على كاهلي أثقالاً تعادل الأطنان، تخيلوا معي المشهد الذي لا يمكن أن أنساه (وقفت واستندت على الباب من الداخل كي لا يراني أحد ورفعت رأسي للسماء مع أنفاسي المتسارعة المتقطعة ونبضات قلبي التي تضغط بشدة على قفص صدري، وقلت بنفسي: إلى أين ؟؟ إلى أين ؟؟).

علمت بعدها أنني ببساطة وصلت إلى كتلة دهنية مكونة من 157 كجم، لكن لم أكن أعلم أنه سيكون فيلماً وثائقياً هذا الرقم لاحقاً، وهنا أقف! 

سأذهب بكم معي في التدوينة القادمة في رحلة كئيبة إلى المستشفى ولنشاهد بعض الجنون في اتخاذ القرارات لمن وصل لمرحلة اليأس، ونرى التدخل الجراحي وأسباب الهروب..

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.