شعار قسم مدونات

"أنا أفكر، إذا أنا مقتول"

blogs- أنا أفكر، إذا مقتول

الحربُ والسلمُ، متناقِضان، عدوان شرسان. الحربُ التي تستبيحُ حرمتَنا وحياتَنا وتفتتُ ذواتَنا، الحربُ العمياءُ التي لا ترى سِواها والسواد، وتريدُ إِقحام كل البريئين فيها حتى يدخلوا معها في دوامةِ أبديةِ، تريدُ أن تدمرَ كل فكرٍ أبى أن يبقى خاضعاً تحت إمرتها.
 

الحربُ التي تعشقُ الجهلَ وتشكلُ وإِياه قصة حب ملحمية أنانية. الحربُ التي تنهي على كلِ عقلٍ نابغٍ، وتدوسُ على كل دماغٍ سباقٍ يسعى إلى انتشالِ الوطنِ من ركودٍ قد أحلَ به إلى السلامِ. كمْ عالم ذرة، وكمْ أديب، وكمْ رسام، وكمْ فنان، وكمْ جراح، وكمْ وكمْ وكمْ .. كان مصيرُهم الزوالَ في ظروفٍ غامضةٍ.. وما أن يصلنا خبر موتهم حتى يتمُ توليف خبر الموت بطريقة القضاءِ والقدرِ.

ترى لماذا في كلِ حرب، أول من نسمعَ بأنباءِ مقتلهم يكونوا أصحابَ الفكر الناضج؟
الجواب بسيط، فأصحاب الفكرِ يمتلكونَ من أسبابِ القوةِ ما يخيف دولاً كبرى. ما يجعل من الرصاصِ والصواريخِ، وحتى أسلحة الدمار الشامل أضحوكة هزلية أمام أفكارهم.
 

الآن نحن العرب نتسول للغرب لكي يعطونا تلك الكتب التي لم نعرف كيف نحافظ عليها، بل قمنا باتلافها، فأخذها الغرب ونسبها له على أساس أنه أب الاختراعات والفكر

فالثورات العربية التي أسمَتْ نفسها بالربيعِ العربي لم تكن سوى خريفاً على أصحابِ الفكرِ الرائدين الذين أفْنوا سنين عمرهم لكي يبتكروا اختراع يفيد وطنهم، أو باستكشاف علاج لمرض ما حتى ولو كان من العدم. ماذا جنوا؟ هل تمت مكافئتهم؟
الجواب: نعم، لقد كوفئوا بطريقة لا يحلم بها أي إنسان على هذه الأرض، فليس هناك أحد يحب الموت.

ففي وطنِك، عليكَ أن تكون خاضعاً. وإذا لم توافق يمكن أن تكون إنسان عادي، تدرس وتعمل وتعيش حياتك ضمن ما يتوفر لك.. لكن إياكَ أن تطالب، إياكَ أن تستنكر، إياكَ أن تقول لا، وإياك ثم إياك أن تفكر.. لأنك ستذهب حينها في رحلة أبدية.
 

لنعودَ بالزمنِ قليلاً، من منا لم يسمع بابن رشد والطبري والغزالي وابن حيان وابن سينا والنووي، وبشار بن برد والجاحظ والمعري وابن طفيل وابن بطوطة وغيرهم.. بالتأكيدِ جميعنا درسْنا عنهم في مناهجِنا أو على الأقل سَمعنا بهم. جميعنا نعتبرُهم نخبة نتغنى بهم نحن العرب وبإنجازاتِهم ( لا أعرف لماذا نحب الوقوف على الأطلال دائما؟ ).
 

جربْ أن تقرأَ كتاب لأحدهِم، سترى في أخرِ صفحةِ نبذةِ عن حياةِ الكاتبِ حتى تصل لجملة" مات مقتولاً عام كذا، أو مات مسموماً، أو تم نفيه والعلم عند الله" فيرد الى خاطرك السؤال التالي "لما كل هذا؟ لماذا قتلوا؟" وغالباً لن تجد جواب سوى ذاك الذي أقحمونا وأقنعونا فيه، الإلحاد والكفر.
 

فعلى سبيل المثال ابن المقفع مؤلف كتاب "كليلة ودمنة" الذي حفظنا قصصَه عن ظهرِ قلب، مات مقتولاً. واذا أردنا التمحيصِ في أسبابِ مقتله، نرى بأن للمقفع كتب كثيرة تناول فيها كيف يجب أن يتعامل الحاكم مع رعيته، وكيف يجب على الرعيةِ ان تتعامل مع الحاكم مما أثار غضب الخليفة المنصور في العصر العباسي فاتهمه بالكفر وأمر بقتله.

يا ترى هل كل من تم تكفيرهم ونفيهم كانوا فعلا كفار وأساؤوا للدين؟
لا أعتقد هذا ابداً، لأن جلَّ ما في الأمرِ هو أن تلكَ الأدمغة كانت كفيلة بتغيير أحكامٍ جائرةٍ، كانت كفيلة بأن تقتلع الخطأ من جذورِه، كانت قادرة على أن تكوي الجهل وتبيده، كانت كفيلة بأن تقول للحاكم: إِحترس!! نحن لسنا بإغبياء، نحن نعي ما تفعلون وليس نائمون على أذاننا..
 

إذا كنت صاحب فكر خلاق عليك أن لا تؤمن بمقولة ديكارت "أنا أفكر إذا أنا موجود" بل آمن بمقولة الواقع "أنا أفكر إذا أنا مقتول"

كتب الغزالي وابن سينا وابن رشد وغيرهم، حرقت بذريعةِ كفر أصحابها، والآن نحن العرب نتسول للغرب لكي يعطونا تلك الكتب التي لم نعرف كيف نحافظ عليها بل قمنا في اتلافها، فأخذها الغرب ونسبها له على أساس أنه أب الاختراعات والفكر.
 

مثال آخر على كلامي: الكاتب غسان كنفاني، الدكتور جمال حمدان، أول عالمة ذرة مصرية سميرة موسى، العالم سمير نجيب، الكاريكتور ناجي العلي، المخترع حسن كامل الصباح. جميعهم دون استثناء دفعوا حياتهم ليس لأسباب شخصية بل ثمن لفكرهم، باعتقاد قاتليهم بأنهم إذا قتلوهم سيقضوا على أفكارِهم. لقد غفلوا بأن الفكرةَ لا تموت، فمجرد إِبصارها للنور يصعب إطفاءها. فالفكرة كرذاذاتِ العطرِ ما أن ترشَ في الجوِ حتى ينتشر عبيرها في كل مكان.
 

فأن تكون صاحب فكر، يعني أن تعد اليوم تلو اليوم منتظراً رحيلك. أن تكون صاحب فكر يعني أن تشهق بنفسكِ ولا تدري إن كنت ستحصل على فرصة للزفير. أن تكون صاحب فكر يعني أن تعي بأن حياتك رهن الخطر. أن تكون صاحب فكرة يعني أن تودع عائلتك في كل مرة تراهم فيها، أن تكون صاحب فكر يعني أنك ستكون أول ضحية في الحرب لا أحد سواك..
 

فإذا كنت صاحب فكر خلاق عليك أن لا تؤمن بمقولة ديكارت "أنا أفكر إذا أنا موجود" بل آمن بمقولة الواقع" أنا أفكر إذا أنا مقتول".

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.