شعار قسم مدونات

كلمات كائنة ثقيلة جداً

blogs - mom
حين تصبحين أُماً لأول مرة، لابد أن تعبر هاتين الدهشتين خاطرك: "اختفى جناحي الجميلين وأصبحت كائناً أرضياً ثقيلاً".. "لم أكن أعرف أني كنت أمتلك جناحين". تشتاق جميع الأمهات لأجنحتها، وباتفاق ضمني فريد، لا تتمنى أي أم استعادة جناحيها.

وقفت على عتبة الوقت تناظر اللحظات العابرة.. مرت العديد منها قبل أن تمسك بواحدة.. التقطتها واحتضنتها بكلتا يديها، وبدأت بتفقدها.. أتكونين أنت أيتها اللحظة؟ وضعتها برفق على الأرض.. افترشتها وبدأت بنثر الكلمات والغناء بها.. كانت تتمنى يوما أن تفك شيئا من عقد الحبال الغليظة المعلقة ما بين قلبها والخوف.. وفي كل مرة تقاوم بها، الاستسلام يخدش احتكاك الحبال ما تود أن تحتفظ به من ذاتها.. وما بين الشد والجذب، تترائى لها صور مبعثرة لروحها المعجونة بروح الخوف..
لم تكن تعلم كم يمكن لقلبها أن يتسع لحبات القلق قبل أن تنجب أطفالها.. تغمض عينيها وتشعر بكل حبة كالخرز الصغير يملأ حنجرتها بالغصات.. أو يتقاذف في لبها يطرق بضجيجه أبواب الفزع.. بينما تتسلل بضع حبات لمعدتها؛ لتوقظ ما غفا من تقرحات آلام قديمة..

أدركت أن أمومتها ليست سوى الركض على نفس الطرقات المتعرجة كل يوم مئات المرات، علها تدوس على شيء من الصواب..

كانت تكره ارتكاب الأخطاء، ولا تسمح لنفسها بالتعديلات، لابد أن تتقن كل شيء من المرة الأولى، لكنها اليوم تدرك أن أمومتها ليست سوى الركض على نفس الطرقات المتعرجة كل يوم مئات المرات، علها في واحدة من خطواتها اللاهثة تدوس على شيء من الصواب..

لابد أنهما بهجة حياتها التي لا تقدر، ومهما حاولت أن تعيشها ببساطة.. لا تتقن فن الخفة، بل تزداد ثقلا حتى تملأ بمشاعرها حيز الأرض كله.. فلا يتسع لها مكاناً للقاء الناس الذين تحبهم.. تجد نفسها بعيدة مع طفلين صغيرين تود لو بوسعها احتضانهما إلى جسدها ملئ الزمن، محاولة الاحتفاظ بوهم قدرتها على حمايتهما من قسوة عالم متوحش مشبع بالوجع..
وقفت قرب زوجها يعد لنفسه قهوة الصباح.. كم تحب أن تتصفح وجهه وأن تلملم وجهها من بين ملامحه المحببة.. هو دوماً يحاول أن يشد يديها المرتخيتين من ثقل ما أجبرت نفسها على حمله.. وأن يملأ بازدحام حضوره الفراغ الذي يسكن خلف ظهرها الذي يتوق للإتكاء.. يخبرها دوماً أنه يريدها أقوى كما عرفها، لكنها تجيبه في كل مرة أنها أرادت أن تكون ضعيفة لبعض الوقت لتستريح من دور ظنت أنها لعبته بما فيه الكفاية.. 
 
لطالما أرادت أن تكون ضعيفة لبعض الوقت لتستريح من دور ظنت أنها لعبته بما فيه الكفاية..
لكنها اليوم وبعد أن بلغت الثلاثين من عمرها، تذكرت أنها أبصرت بين حشود العائدين من المستقبل وجها جميلاً يشبه وجهها، لكنه أكثر إشراقاً وقوة.. رأت نفسها التي ودت دائماً أن تكونها، وعرفت في اللحظة ذاتها أنها لابد أن تكون أقوى.. 
ناولها طفلها الباكي.. ابتسم وأخبرها أنه دورها.. وضعت قلمها برفق داخل دفترها ورفعته لمكان ودت أن تظن أن يدا ابنها الحلوتين لن تصل إليه.. حملت طفلها وأكملت الكتابة..

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.