شعار قسم مدونات

حكاية سارة من حوادث السياسة المغربية

blogs - moroco
حوادث السياسة ليست دائما سيئة، على الأقل في مجتمعات لم تعد تثق في السياسة والسياسيين، وفي الديمقراطية وإمكانية نجاح إنباتها في بيئة سياسية تقليدية.
 

ووسط الكم الهائل من الإحباطات يمكن أن تقع هنا أو هناك حوادث قد تبدو نكوصية في مضمونها، وعابرة في عمرها الزمني، لكنها غنية بالدلالات، وفيها الكثير مما يبعث على الانشراح والفرح.
 

وإحدى هذه الحكايات المفرحة، التي لا نعدم كثيرا منها في مجتمعات شمال إفريقيا والشرق الأوسط، وإن بصيغ مختلفة، وقعت هنا في المغرب، إنها من النوع الذي يغذي فينا الأمل والقدرة عليه، وخلاصتها أن تقاليدا مرعية جد تقليدية يعاد فيها النظر وتخضع للمراجعة، وباختصار يحل الحوار والنقاش محل الطاعة والخضوع. وإليكم تفاصيل الحكاية:
 

في الانتخابات التي جرت في نوفمبر 2011 فاز الإسلاميون الذين جاء الحزب ليحاربهم بالرتبة الأولى واكتفى بأن يحتل الترتيب الرابع

وسط أجواء انتخابية متوترة استعدادا لانتخابات البرلمان في سابع أكتوبر 2016 أجرى نبيل بنعبد الله، الأمين العام لحزب التقدم والاشتراكية أقوى حلفاء حزب العدالة والتنمية الإسلامي في قيادة الحكومة، استجوابا صحفيا قال فيه إن مشكلة حزبه ليست مع حزب الأصالة والمعاصرة، بل مع الجهة التي تقف خلفه، ولما طلب منه الصحفي توضيح المقصود بهذه الجهة وهويتها، أفاد أنه يعني بذلك من أسسه وهو من يجسد التحكم.
 

وقد تبدو هذه العبارة والتوضيح عادية بالنسبة للقارئ العربي من خارج المغرب، لكنها ليست كذلك بالمطلق، وهنا لابد من بعض التفاصيل التوضيحية.
 

قبل الانتخابات التشريعية لسنة 2007 استقال مسؤول سام واستثنائي في الدولة اسمه فؤاد عالي الهمة الذي يوصف بأنه صديق الملك محمد السادس من مهامه الرسمية بوزارة الداخلية ليقدم ترشيحه للانتخابات التي فازت فيها قائمته الانتخابية المستقلة بثلاث مقاعد برلمانية، وفي سنة 2008 سيقوم رفقة وجوه من اليسار واليمين والتيار الليبرالي والأعيان المحليين بتأسيس حزب أسماه حزب الأصالة والمعاصرة، وفي ظرف وجيز سيصبح هذا الحزب أكبر قوة في البرلمان حتى دون أن يشارك في انتخاباتها المباشرة، وفي الانتخابات المحلية التي جرت سنة 2009 سيحتل الصدارة استعدادا لربح انتخابات 2012.
 

لقد بدا بالنسبة للكثيرين أن الأمر يتعلق بحزب للدولة، وبالنسبة لآخرين أكثر توغلا في التأويل هو حزب الملك، ولدى هؤلاء وأولئك ما يدعم مواقفهم في التاريخ الحزبي المغربي، في سنوات الستينات والسبعينات حرصت الدولة دائما على تأسيس أحزابها الخاصة لمزاحمة أحزاب الحركة الوطنية واليسار، وخلف هذه المشاريع كانت تقف دائما شخصيات مقربة من القصر الملكي.
 

لكن طموح فؤاد عالي الهمة وحزب الأصالة والمعاصرة سيتقزم في زمن النسخة المغربية من الربيع العربي، رفع المتظاهرون شعارات معادية للحزب ومؤسسيه، فاستقال فؤاد عالي الهمة من الحزب وعينه الملك محمد السادس مستشارا في ديوانه، وفي الانتخابات التي جرت في نوفمبر 2011 فاز الإسلاميون الذين جاء الحزب ليحاربهم بالرتبة الأولى واكتفى بأن يحتل الترتيب الرابع. وطيلة خمس سنوات من عمر الولاية الحكومية التي قادها الإسلاميون كان أشرس معارضيهم، وبدا أمينه العام الجديد إلياس العماري كما لو أنه الشغل الشاغل لرئيس الحكومة عبد الإله ابن كيران.
 

وبعد أن هدأت زوابع الربيع العربي عاد حزب الأصالة والمعاصرة ليستجمع قواه، مراهنا على إسقاط الإسلامين وقيادة الحكومة المقبلة، لكت أسلوبه السياسي يثير الكثير من الجدل، وأبدع السياسيون المنافسون له مصطلح «التحكم» للتعبير عن أنه حزب غير ديمقراطي، ولم تعد دائرة خصومه تنحصر فقط في حزب العدالة والتنمية، إذ توسعت اللائحة لتشمل حزب الاستقلال الذي هو امتداد للحركة الوطنية، وحزب التقدم والاشتراكية ومعه باقي أحزاب اليسار، وحتى الأحزاب الصغرى صارت ترى فيه عدوا للديمقراطية، بينما يؤكد هو أن كل ما يفعله هو ممارسة المنازلة السياسية بطرق ديمقراطية يعجز خصومه عن تحمل خسائرها وهزائمها.
 

رفض الحزب التمييز بينه وبين مواقف أمنيه العام التي قال إنها تعبر عن مواقف الحزب مادام أن بنعبد الله هو الناطق الرسمي باسمه

لكن خصوم الحزب لم يتوقفوا عن التساؤل عن سر القوة التي يتمتع بها هذا الحزب، ولذلك حين قال نبيل بنبعد الله في استجوابه الصحفي إن مشكلة حزبه مع حزب الأصالة والمعارضة هي مع من يقف خلفه، فهم الكثيرون من ذلك أن المقصود به هو المستشار الملكي فؤاد عالي الهمة، ولأن هذا التصريح اتخذ أبعادا قوية في وسائط التواصل الاجتماعي والصحافة المحلية وبدأ يعطي الانطباع بأن الملكية ترعى مشروعا حزبيا خاضا بها، اضطر نبيل بنعبد الله إلى نشر بيان توضيحي يؤكد فيه أنه لم يقصد المستشار الملكي، بل كان المعني من كلامه هو فكرة تأسيس الحزب ومؤسسيه.
 

وقد اعتقد الجميع أن الحكاية قد انتهت هنا، لكن وبعد أربع أيام من نشر نص الاستجواب وفي ثاني أيام العيد، سيفاجئ الديوان الملكي الجميع ببلاغ ناري موجه ضد نبيل بنعبد الله، فقد اتهمه بأنه يمارس «التضليل السياسي» وأن «هذه الفترة الانتخابية تقتضي الإحجام عن إطلاق تصريحات لا أساس لها من الصحة واستعمال مفاهيم تسيء لسمعة الوطن، وتمس بحرمة ومصداقية المؤسسات، في محاولة لكسب أصوات وتعاطف الناخبين» وزاد البلاغ قائلا أن الديوان الملكي «إذ يصدر هذا البلاغ التوضيحي، فإنه يحرص على رفع أي لبس تجاه هذه التصريحات، لما تحمله من أهمية ومن خطورة، لاسيما أنها صادرة عن عضو في الحكومة، وأن الشخص المقصود هو مستشار لجلالة الملك حاليا، ولم تعد تربطه أي علاقة بالعمل الحزبي، مؤكدا أن مستشاري صاحب الجلالة لا يتصرفون إلا في إطار مهامهم، وبتعليمات سامية محددة وصريحة من جلالة الملك.»
 

وقد أثارني حينها حرص البلاغ على أن يتضمن تفصيلا صغيرا لكنه سيكون معبرا فيما بعد وذلك حين قال «أن هذه القضية لا تخص إلا صاحب التصريحات، وليست لها أي علاقة بحزب التقدم والاشتراكية، المشهود له بدوره النضالي التاريخي، وبمساهمته البناءة في المسار السياسي والمؤسسي الوطني».
 

وساد بعدها صمت رهيب وسط الأحزاب السياسية، حتى الذين تقاسموا مع نبيل بنعبد الله مواقفه من حزب الأصالة والمعاصرة التزموا الصمت، وانبرى جانب من النخبة الانتهازية للهجوم على بنعبد الله واتهامه بأنه باع حزبا يساريا للإسلاميين من أجل بضعة مقاعد في الحكومة، أما في الصحافة فقد بدأت ثقافة الإشاعة تشتعل، وتم تسريب أن الرجل قدم استقالته من الحزب، ووحدهم بضعة نشطاء في الفيسبوك انتقدوا توقيت البلاغ الملكي، وعبروا عن دعمهم للحزب وأمينه العام، ورأوا في ذلك انتصارا لاستقلالية القرار الحزبي.
 

لكن المفاجأة ستأتي من قيادة التقدم والاشتراكية التي عقدت اجتماعا عاجلا للتداول في البلاغ الملكي، وفي بيان رسمي رفض الحزب التمييز بينه وبين مواقف أمنيه العام التي قال إنها تعبر عن مواقف الحزب مادام أن بنعبد الله هو الناطق الرسمي باسمه. وزاد الحزب في رده قائلا إن تصريحات أمينه العام «تعتبر عادية في المجتمعات الديمقراطية، وتندرج في سياق التنافس الحزبي الطبيعي، والصراع الفكري والتعبير عن الآراء والمواقف في إطار التطور الديمقراطي العادي ببلادنا»، مضيفا أنها «آراء ومواقف تتعلق بالراهنية السياسية الحزبية، وليست وليدة اليوم أو ناتجة حصريا عن القيادة الحالية للحزب، بل إنها تعود إلى سنوات مضت».
 

وبطبيعة الحال، صيغ الرد بكثير من الكياسة والحرفية والنضج، وقدر أكبر من التوقير للمؤسسة الملكية التي قال الحزب إنه لم تكن في نيته أبدا إقحامها في النزاعات الحزبية المحضة، وأنه يعمل «في إطار الاحترام التام لثوابت الأمة والمؤسسات التي يقرها دستور المملكة المغربية، وعلى رأسها المؤسسة الملكية، التي نكن لها التقدير الفائق والإخلاص الكامل، باعتبارها رمز وحدة الأمة وضامنة لدوام الدولة واستمرارها»

شكلت هذه الواقعة قطيعة مع التقاليد المرعية في السياسة المغربية، وأنهت زمن الخضوع والخنوع

وقد كان وقع بيان الحزب قويا في مواقع التواصل الاجتماعي، وكتب كثيرون بأنه رفع من شعبيته ومصداقية أمينه العام، وأظن أن السبب في ذلك راجع إلى تكريسه لتقاليد جديدة في التعامل بين المؤسسة الملكية والأحزاب السياسية، وكما كتب ذلك الصديق المحلل السياسي عمر الشرقاوي في تدوينته على الفيسبوك فإن «البلاغ يعد سابقة سياسية في التعامل الحزبي مع البلاغات التي يصدرها الديوان الملكي، فقد جرت العادة والتقاليد السياسية أنه في أسوء الحالات كانت الطبقة السياسية تنحاز وتفضل لغة الصمت البليغ للتعبير عن مواقفها السياسية اتجاه المنطوق الملكي، الذي يحدد ويضع قواعد اللعبة السياسية ومراقبة مجال النقاش» ويضيف صديقنا أن بلاغ الحزب «يعلن ضمنيا نوعا من التمرد على طبيعة العلاقة السياسية العمودية التي جمعت تاريخيا بين الملكية ونخبتها السياسية»
 

وبالفعل، فقد شكلت هذه الواقعة قطيعة مع التقاليد المرعية في السياسة المغربية، وأنهت زمن الخضوع والخنوع، لكن الملكية نفسها أبانت عن ترحيبها بهذا التوجه حين أصدرت بلاغها الأول، لقد كان هذا البلاغ تعبيرا عن مأسسة الانتقادات التي يمكن أن توجهها الملكية إلى الفاعلين الحزبيين في إطار من الوضوح واحترام الدستور، وهو ما لم يكن ممكنا قبل عشرين سنة على الأقل، ففي سنة 1996 مثلا كان يكفي أن يقول حزب سياسي للملك الراحل الحسن الثاني إنه يرفض التصويت لصالح الدستور كي يجد نفسه عرضة للتقسيم ومنع صحافته وعرقلة حضوره في لجان مراقبة الانتخابات، أما بلاغ الديوان الملكي فقد أعلن نهاية هذا الأسلوب في معاقبة الخارجين عن واجبات الانضباط والطاعة.
 

وفي إحدى القنوات التلفازية المحلية طرح علي مقدم نشرة الأخبار سؤالا عن رأيي في البلاغين، وكان تعليقي أن المهم ليس التفاصيل التي ستتجاوزها الأحداث السياسية، لكن الأهم هو الدروس والعبر التي نستخلصها من هذه الواقعة، وهي بالنسبة لي لحظة جديدة من لحظات تكريس بناء الديمقراطية الناشئة في المغرب، وأسلوب راق وغير مسبوق في الحوار الديمقراطي بين الحقلين الملكي والحزبي، وهذا يعني لي أيضا أن النظام السياسي المغربي يواصل انفتاحه، وألا تراجع عن تحرير اللعبة السياسية التي كانت مغلقة وتخضع للضبط والتوجيه المسبق.
 

هكذا انتهت الحكاية بسلام تؤكد ما قلته لكم في البداية، إن حوادث السياسة ليست دائما سيئة، وفيها الكثير مما يبعث على الفرح والانشراح. 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.