شعار قسم مدونات

أخي العدوّ سرمد

blogs-سوريا

كانت ساحة الساعة في حمص تكتظّ بالناس، ولم يكونوا من المارّة كالعادة.. بل كانوا بشراً ينتظرون إشعال الفتيل في الخامس والعشرين من آذار 2011.

همس لي "سرمد" يومها بأنّ الأوان قد آن، وبأننا لا بدّ أن نسمع بعد قليل إشارةً ما..
لم تكن تلك التظاهرة الأولى في حمص فقد سبقها بأسبوع تظاهرةٌ صغيرة سارعَ الأمن إلى تفكيكها، وطردِ المتظاهرين فيها..
ولكنَّ اليوم يوم الجمعة، وسيلانُ الدم في "درعا" قد أجّج المشاعر، والناس محتقنون، ويتنظرون بصيص الثورة هنا في حمص!

مع تصاعد الهتاف هجمَ شبابُ اتحاد الطلبة علينا بالعصيّ  يومها أيقنتُ بأن الأسد ماضٍ في تسخير ما استطاع من الشعب لدفعه نحو الاقتتال.

صعدتْ تلك الفتاة على "صبّة" الباطون وهتفت عالياً: حريّة.. حريّة.. حريّة..
توجّهت الأنظار إليها، وسرعان ما التفّ حولها ما يقارب العشرة من الشباب لحمايتها..
بدأ الصوت يمتدّ أكثر فأكثر، وبدأت الحناجرُ تجرّب الهتاف لأوّل مرّة..
وآخر شعارٍ وصلتْ إليه تلك التظاهرة كان: الشعب يريد إسقاط المحافظ.

كلّنا كان يعلم بأن مشكلتنا أكبر بكثير من تغيير المحافظ، ولكننا كنّا بحاجةٍ إلى التدرّج في كسر حاجز الخوف، فما زال شبح "حافظ الأسد" يلاحقنا في وجه كلّ مواطنٍ سوريّ ليقول لنا: إني أراكم!
لم يأتِ يومها رجال الأمن بل حلَّ عوضاً عنهم أفرادٌ من "اتحاد طلبة الجامعات" الذين تمّ نقلهم بالحافلات إلى مكان التجمّع (ساحة الساعة في حمص).

صاح "سرمد" قائلاً: انظر من يتصدّر المسيرة.. إنه شاهر!
كان شاهر وسرمد وآخرون أعضاء في الفرقة المسرحية التي أسستها في حمص، وكنتُ بمثابة الأخ الكبير لأصدقاءٍ يجمعهم ذاتُ الشغف تجاه تلك الخشبة.
كانت صور "الدكتور" المحمولة على قضبان الخشب متشابهةً، ومطبوعةً تذيّلها ذات العبارة "منحبك".. كانت لافتاتهم بلا اختلافٍ فيما بينها، بلا أي اجتهاد كوظيفةٍ وجبَ على الطلّاب تأديتها دون أن يكون لهم أي رأيٍ فيها..

في حين على الطرف المقابل كانت اللافتات مختلفةً، وبخطّ اليد.. منها ما كُتب بالأسود والأحمر، والأخضر، ومنها ما كُتب بالعربية ومنها بالإنجليزية.
كان "شاهر" محمولاً على الأكتاف يهتفُ كممثلٍ رديء الأداء قبل أن يلمح عيناي الغاضبتين، وينزل خجلاً لعلمه المسبق بموقفنا أنا وسرمد..
ومع تصاعد الهتاف من طرفنا.. هجمَ شبابُ اتحاد الطلبة علينا بالعصيّ فكان لهم نصيبهم من الحجارة التي فرّقتهم لتستمرّ التظاهرة، ولتمتدّ أكثر فأكثر..
يومها أيقنتُ بأن الأسد ماضٍ في تسخير ما استطاع من الشعب لدفعه نحو الاقتتال.

25-آذار-2011 الساعة الثانية ظهراً
وصل رجال الأمن إلى ساحة الساعة.. فتراجعنا قرابة خمسين متراً إلى الخلف لنصبح قرب ما يسمّى "نادي الضباط" الذي كان مغلقاً يومها..
قليلٌ من الاحتقان إبان إطلاق رجال الأمن للغازات المسيلة الدموع كان كفيلاً بصعود أحدنا إلى جوار اللوحة التي تجمع ما بين صورة (القائد الخالد، وابنه البار) ليمزّقها إرباً وسط ذهول الجميع.

الجميع يومها وقف صامتاً: المتظاهرون، وشباب اتحاد الطلبة، ورجال الأمن.. كلّهم لم يأتوا بحركة أمام الصفعة التي وجّهها أحد شبان حي الوعر القديم، والتي أصبحت شرارة الثورة في سوريا، و"السلوغن" الأشهر لشاشات الأخبار..
وللأمانة لم يكن وقتها تمزيق صورة "بشار الحيّ" هو سبب صعقتنا، وإنما تمزيق صورة "حافظ الميت" الخالد في أذهاننا وخوفنا، والذي يبدو بأنه كان حياً أكثر من بشار!

مرّت الشهور، وازداد عدد الشهداء في سوريا، وتفاقمت الأوضاع أكثر فأكثر، وبلغَ "الحلان" الأمني والعسكري ذروتهما في القمع، واصطياد المتظاهرين العُزَّل.
أذكر في اعتصام الساعة في حمص أنني نزلتُ مع أصدقائي، وصادفت هناك "سرمد" الذي كان مبتهجاً من خروج مئات الآلاف إلى الساحة الأكبر في حمص.

يومها بدأ الاعتصام بالشعارات المطالبة بإسقاط النظام، وبالدولة المدنية ثمّ أخذ بطبيعة الحال صبغةً دينيّة جعلتْ من الشّعارات تبتعدُ عن جوهر مشكلتنا في سوريا، قال لي سرمد يومها بأنه عائدٌ إلى المنزل، وفهمت السبب، ورغم محاولتي في شرح أنه من الطبيعي أن يتصدّر الخطاب الدينيّ اعتصاماً نتجَ عن تشييع سبعةٍ من شبّان حمص، وبأن الناس غاضبون من الاستفزاز الذي يمارس بحقّهم من النظام.. إلا أنّ "سرمد" مضى صامتاً.

تمّ اقتحام الساحة بعد الساعة الواحدة ليلاً، ولم يكن المقتحمون رجالَ أمنٍ، أو جنوداً من الجيش..
بل كانوا شباباً من اللجان الشعبيّة تمّ جمعهم من الأحياء الموالية للأسد في حمص (وغالبيتهم من الطائفة العلويّة)، وكانت تلك الليلة الحجر الأساس في الصراع الطائفيّ في حمص الذي أدْخلَنا في دوّامةٍ استنزفت الجميع، وأنقذتِ الأسد من اعتصاماتٍ مشابهة كانت كفيلةً بتعطيل مؤسسات الدولة، والإطاحة به.

كان النظام يسارع إلى افتعالِ ما يؤجّج الاحتقان الطائفيّ كلّما برد معتمداً على غضب السنّة من جهة، وذعر العلويين من القادم من جهة أخرى.

استمرّ إطلاق النار ليلتها قرابة ربع ساعة تمّ فيها ترهيب المدينة بأكملها، ومن ثمّ جاءت سيارات جمع القمامة لتنقل جثث شهداء الاعتصام إلى أكبر ثلّاجات سوريا (على طريق حماة)، ولتتبعهم سيارات الإطفاء التي غسلت الساحة من الدمّ، وكأنّ شيئاً لم يكن!
أذكر جيداً ذلك الصباح في حمص.. كان صباحاً قويَّ الشمس.. قويَّ الصمت، وكانت الساحة فارغةً من الناس، والمَحَال التجارية قد دخلت في إضرابها حزناً على أرواح من رحلوا.

كان "سرمد" علوياً أيضاً، ووالده ضابطٌ في الجيش، ورغم محاولة الكثير من أقربائه ثنيه عن المشاركة في الثورة إلا أنه كان عنيداً متشبّثاً بموقفه المعارض للنظام من قبل أن تلد الاحتجاجات في سوريا، وأذكر جيداً ردّة فعله الغاضبة، وشتائمه على صبية اللجان الشعبية، وشتائمه على الطائفة التي ينحدر منها عقب مجزرة الاعتصام.. كما أذكر جيداً خوفه من نتيجة الفعل الذي حدث.

توالت عمليّات الخطف والتنكيل بجثث الطرفين قبل رميهم في الشوارع، وبات مظهر الأوصال المتناثرة صباحَ كلّ يوم أمراً متوقّعاً، وكان النظام يسارع إلى افتعالِ ما يؤجّج الاحتقان الطائفيّ كلّما برد معتمداً على غضب السنّة من جهة، وذعر العلويين من القادم من جهة أخرى..
ازداد الاحتقان داخل كلّ طرف ليصبح النزاع الطائفيّ سيّد المشهد، وشغلنا الشاغل، وهذا فعلاً ما أراده النظام كورقةٍ أخيرة تحميه من استمرار المشروع الثوريّ الذي اجتاح البلد.

انتشر السلاح في مطلع 2012، وبات أمره خارجاً عن السيطرة لأنه أصبح بيد المدنيين لا حكراً على المنشقين العسكريين كما كان، ومع هذه الفوضى، ودون وجود مرجعيّة لأولئك المسلّحين من المدنيين بات ردّ الفعل يشابه الفعل الذي انتهجه النظام بعد تسهيل طرق الحصول على السلاح..
أذكر جيداً كيف أضحى الحصول على "القنبلة" كالحصول على تلفازٍ مُهرَّبْ!

تبلور الاصطفاف في حمص، ولم يعد هناك أمكنةٌ تتسع لمن هم في الوسط، وهذا ما كان "سرمد" يعانيه وسط بيئةٍ تكنّ للثوّار كلّ العداء لقاءَ ما بدأوا يتعرّضون له في حيّهم من إطلاقٍ عشوائيّ للنار منبعثٍ من سيارات "بيك أب" قادمة من حيّ البياضة (المعارض للنظام ذو الأغلبية السنية العشائرية).

صحوتُ يومها على خبر استشهاد الأخ الأكبر لسرمد مخلفاً وراءه طفلاً بعمر السنتين، وذلك أثر رصاصةٍ أصابته وهو يبتاع بعض الحاجيّات من البقالية الكائنة في شارعهم، ولم يكن لأخيه أي نشاطٍ مرتبطٍ بالنظام، تلك الرصاصةُ مصدرها مرتزقة السلاح الذين لا علاقة لهم بالثورة.. أولئك الذين استغلوا الظرف الحاصل في حمص لتنمو تجارتهم أكثر.. أولئك "الشبيحة" الذين ابتُلي بهم السنة في سوريا كما ابتلي العلويون بشبيحةٍ وأمنيين وضبّاط يرأسهم من شرّع القتل كواجبٍ وطنيّ.

لا يمكن لمستبدّ أن ينتمي لطائفةٍ لأنّ استمراريته مرهونةٌ بصراعها مع الأخرى، وكانت الضحية الأكبر من الطرفين هم المدنيّون الذين باتوا أمام معركةٍ لا يريدونها

لم تستطع عائلة "سرمد" والمئاتُ من العائلات الفقيرة أمثالها الخروج من الحيّ لعدم توافر البديل الآمن، وما كان أمام "سرمد" إلا أن يحمل السلاح ليحمي العائلة من أيّ اقتحامٍ فجائيّ من قبل مرتزقة السلاح، أو بعض الغاضبين الطائشين من الأحياء المجاورة، وكان وضعهُ يشبه تماماً وضع الكثيرين من الطرف المقابل ممن انضموا إلى الجيش الحرّ كي يحموا عائلاتهم من هجمات الجيش الذي أصبحت دباباته تصول وتجول في شوارع حمص.

كان الأسد وحلفاؤه يلعبون بنا، ويعتاشون على دمائنا التي غسلت شوارع المدينة، ويومها تأكدت بأنّ اعتبارَ الأسد شخصاً علوياً هو أمرٌ مثير للسخرية.. كانَ الأسد المضحّي الأول بالعلويين في سوريا، والمعتاش الأكبر على خوفهم، ولا يمكن لمستبدّ أن ينتمي لطائفةٍ لأنّ استمراريته مرهونةٌ بصراعها مع الأخرى.. وكانت الضحية الأكبر من الطرفين هم المدنيّون الذين باتوا أمام معركةٍ لا يريدونها، ولكنّ القتل كان دافعاً لا يمكن تجاهله إذ أن ذعر البعض لا يمكن أن يشرعن وحشيّتهم.

أخي العدوّ الذي قرأ نصف الأدب الروسيّ، وكان يحلمُ بأن يذهب إلى المعهد العالي للفنون المسرحية ليصبح مسرحياً محترفاً.. يحملُ اليومَ بندقيّة، ويتمترس مع شبابِ ما يسمى "الدفاع الوطني" لحماية الأحياء المؤيدة في حمص من هجمات "المسلحين المتطرفين" الذين أصبحوا خارج المدينة.

يتمترسُ "سرمد" مع الشباب الذين كان يحتقرهم، وينتقد تطرّفهم وغلوّهم وسطحيّة رؤيتهم للمشهد.

أخي العدوّ الذي لم يجد نفسه سابقاً في أي طرفٍ من الطرفين آثر أن يقبعُ القرفصاء مع مغسولي الأدمغة متكئاً على بندقيّةٍ يجهلُ آليةَ عملها.. بندقيّةٍ تقتلنا، وتقتله.
والعديدُ من أقربائي وأصدقائي في الطرف المقابل يتمترسون في الكتائب لأهدافٍ عديدة أولها التخلص من حقبة الأسد، وثانيها حماية الوجود في وطنٍ لهم.

وأنا الضائع بينهما أمني النفس بأن تزولَ البنادق، وأن يزولَ الأسد – المسبّب الأكبر لهذا البلاء- وأمراء الحرب الذين يعتاشون على مشروعنا الحقّ..
وأنتظرُ مؤمناً قدوم اللحظة التي ستجلس فيها ابنتي مع ابنة "سرمد" في أحد مقاهي حمص الهادئة لتشربا كأساً من الشاي.

ربما كان لزاماً علينا أن نموت ونتشرّد يا "سرمد" كي تحتسي بناتنا كوب شاي في مدينةٍ بريئةٍ من هذا الاصطفاف القاتل.. كما كانتْ تشبهنا قبله.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.