شعار قسم مدونات

الجميلات هُنَّ..

blogs - girls
ربما لم يمر شاعر عربي من أيام عنترة بن شداد حتى نزار قباني إلا وقد تغنى في جمال المرأة وحسنها الظاهري،  ولكن حتى هذه اللحظة لم يمر بعد على مسامعي من تغزل في جمال الفكر لامرأة ما، وأسرف في استخدام الصور الفنية المعقدة ليجعلنا نغوص في الخيال إلى أبعد حد ، تماما مثلما أخذنا الشاعر بدر شاكر السياب بسحر أبياته الغزلية وهو يقول: 
  عيناك غابتا نخيل ساعة السحر
أو شرفتان راح ينأى عنهما القمر
عيناك حين تبسمان تورق الكروم
وترقص الأضواء…كالأقمار في نهر
يرجه المجداف وهناً ساعة السحر
كأنما تنبض في غوريهما النجوم

تحولت صفات الجميلات إلى مساحيق ومراكز تجميل تخطف أبصارنا أضواءها البراقة وكأنها تدفعنا لنؤمن ونثق أن المرأة خلقت كأداة للجمال فقط.

و مازلت أتذكر كم من الوقت الذي استهلكته معلمة اللغة العربية  في تشريح حروف هذه الأبيات واستخلاص أسرارها الجميلة المتوارية في التشبيهات الفنية، وكنت أتساءل بيني وبين نفسي لماذا لم يقل ولو شطراً واحداً يصف لنا فيها محاسن عِلمها وما تملكه من جمال داخلي يأسر فيه أشواقنا للتعرف على هوية هذه المرأة؟.

أما في الوقت الحالي نجد أن صفات النساء الجميلات في كل ما احتوته دواوين الشعر تحولت إلى مساحيق ومراكز تجميل تخطف أبصارنا أضواءها البراقة وكأنها تدفعنا لنؤمن ونثق أن المرأة خلقت كأداة للجمال فقط.

دعونا نتأمل لوهلة ماذا لو كانت هناك  دعايات إعلامية براقة موجهة للمرأة عن كبسولات من أبيات شعرية أصيلة تزيد من جاذبية وجنتيها عندما تنطق كلاماً موزونا مُعتقا بالبلاغة والأدب، أو إعلانات عن ألوان من المعارف تضفي على ظلال عيونها بحراً تختلط فيه رقة الماء والشجر، ويا حبذا أن نجد على واجهات المتاجر ملصقات لآخر أشكال ( الكولاجين ) مستخلص من حكايات الأمم تمنح وجهها نضارة يرى من خلالها الناظر  أسرار الحضارات و أصالة صحراء العرب، وأن نجد في سوق العطور مسك الفطنة وعنبر الحكمة تفوح في زقاق مدرسة الحياة.

نعم.. نحن نحتاج إلى مثل هذه المُنتجات المعرفية في أسواقنا وإعلامنا ومناهجنا وعاداتنا وتقاليدنا لأنها أساسيات الجمال الحقيقي الذي هجرناه، فمثل هذه المُنتجات أنقذت شهرزاد من بطش شهريار، وأقعدته ما يزيد عن الألف ليلة تحيك له بقوة بلاغتها وفطنتها أسدالاً من القصص، فخلد التاريخ اسمها وماتت أسماء الجميلات اللواتي سبقنها إلى قلب شهريار.

وهي ذات المنتجات التي صنعت امرأة غير عادية قال فيها جاك جون روسو: إن المرأة العظيمة تُلهم الرجل العظيم، أما المرأة الذكية فتثير اهتمامه بينما نجد أن المرأة الجميلة تعجبه للحظات فقط.

وذاتها التي خلدت حنكة كليوباترا وحكمة بلقيس ملكة سبأ على مر التاريخ.

أعلم إن كل ما ذكرته لا يشبه واقعنا الذي يعاني من سرطان شرس يعمل على تهميش  فكر المرأة وتضخيم ثقافة الجمال الجسدي، ونجد انسياق جماهيري للنساء بلا  تفكير أو وعي وراء جمالهن الخارجي، ولا بد لنا أن نعترف أنها بعض من أضغاث موروثات مجتماعاتنا، ونتناقله لا إرادياً في معاملات حياتنا.

ما زلنا نسمع عن أم تطرق بيوت الجميلات لتحظى  بعروس لابنها، وفي تربية البنات نجد الأم تكرر دائما على مسامعهن بأن يسرفن في إظهار جمالهن حتى يتزوجن؟، وفي إعلانات التوظيف نجد أول شروط طلبات الوظيفة هو “ حسنة المظهر”  وخلال مقابلات التوظيف يفوز الجمال في الكثير من الأحيان بالقبول؛ وتقابل أعلى الشهادات بالرفض لافتقارها مؤهل الجمال والغُنج.

من لا يصدق هذا كله لا بد أن يصدق لغة الأرقام حيث يتصدر عالمنا العربي عالمياً قائمة الأعلى استهلاكاً لمستحضرات التجميل وعمليات صناعة الجمال بينما العالم المتقدم يضخ أمواله في التعليم وصناعة أجيالا تحافظ عليه وتطوره.

ويتراءى لي ما سيقفز إلى رؤوس البعض من أفكار مثل (الأوروبيات جميلات من الله )، ولكن يا عزيزي القارىء المرأة الأوروبية العادية لا تسرف في إظهار الجمال ولا يهمها نظرة الآخر فهي ملكة نفسها لنفسها، وعندما سألت إحدى العجائز الألمانيات عن معنى الجمال لديها، قالت لي ببساطة .. إن أينشتاين فسر الجمال في ثلاث عناصر مهمة..

يا حبذا أن يربى الولد على رؤية جمال أمه في عقلها وذكائها في إدارة مملكتها وبالتالي سيختار هو شريكة لا تقل عن أمه ذكاءا ومعرفة.

البساطة ثم التناسق والروعة، فبساطة المظهر تريح القلب وانعكاس الباطن على الظاهر يزيد من تناسق الجمال الفطري وبالتالي تظهر لنا روعته، وهنا يتضح لي سر نجاح ليز موراي التي اتخذت من قراءة الكتب مأوى ومن المعرفة كمينا يدفئ جسدها المشرد في أزقة الشوارع وتصبح فيما بعد علماً من أعلام جامعة هارفارد العالمية، ألم يكن بإمكان ليز أن تستغل صباها وجمالها لتعيش حياة رغيدة؟

نحن بحاجة ماسة إلى إعادة صياغة وفهم عميق لمصطلح الجمال في حياتنا، فيا حبذا أن تُربى البنت من صغرها  على أن جمالها يكمن في تميز إنسانيتها، وزينتها في عقلها، وقوتها فيما تجود فيه على  نفسها من معارف،  بدلاً من أن تربى على صراع إثبات أنها الأجمل في عائلتها أو مدرستها أو في الحي الذي تقطنه ويصبح همها هو الاجتهاد في مساقات تتوجها الأجمل على الدوام في نظر الآخرين، ويا حبذا أن يربى الولد على رؤية جمال أمه في عقلها وذكائها في إدارة مملكتها وبالتالي سيختار هو شريكة لا تقل عن أمه ذكاءا ومعرفة.
 
أخيرا.. هل تدرون لماذا أركز على الجمال الفكري للمرأة؟ 
لأنها هي من قال عنها نابليون بونابرت (المرأة التي تهز المهد بيمينها تهز العالم بيسراها)، وهي تلك التي حث رسولنا الكريم بالارتباط بها و قال: ( تنكح المرأة لأربع لمالها ولحسبها ولجمالها ولدينها؛ فاظفر بذات الدين تربت يداك )، وهنا لم يقصد التدين بل حمل المعنى الضمني لصاحبة العلم والمعرفة.

وهي الأم العظيمة التي قال فيها الشاعر حافظ إبراهيم الأم مدرسة إذا أعددتها..أعددت شعبا طيب الأعراق ، وهي ذات المرأة التي ربت بمعرفتها وعلمها قادة وأبطال أمثال صلاح الدين الأيوبي وطارق بن زياد ، وهي ذات المرأة التي يتسابق أعداؤنا على جعلها  حبيسة التقليد الأعمى والهوس المفرط للجمال الظاهري والركض وراء الأضواء والمشي على سجاد الشهرة الذي لن يُعلي من شأنها أكثر من أن تكون أداة للعرض فقط، وبذلك ينجحون في إفقادها ذاكرة القضية والوطن، والفشل الذريع في صناعة الإنسان العربي الذي سيعيد أمجاد أمة ما زلنا نتباكى على أطلالها..

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.