شعار قسم مدونات

كرياض الأطفال حالنا!

blogs - child - ryad
"هيا، جميعكم أمسكوا بأيدي بعضكم لنشكل دائرة متماسكة" كانت هذه الجملة من أكثر الجمل التي ترددت في أذني و أنا في رياض الأطفال، كانت تحرص المعلمة أن نمسك بأيدي بعضنا وأن نضحك معاً و أن نلهو معاً، حتى مفتش الوزارة عندما كان يأتي كان يراقب تصرفاتنا، إن كان منّا من هو وحيد أو حتى يميل إلى الوحدة، كان يجلس مع المعلمة و يخبرها، و في نهاية كل فصل دراسي كنّا نحصل على شهادات، ليست بأرقام تشير إلى التحصيل الأكاديمي بالطبع فنحن ما زلنا أطفالاً لم يتجاوز أحدنا أربع سنين من عمره ، لكنها كانت عبارة عن سجل الطالب في ملخص كامل عن سلوك الطالب و تصرفاته و ميوله.

من بينها ويكتب بالخط العريض "هل يميل الطالب للعب وحيداً" ، "هل الطالب عدائي مع الطلبة الآخرين"، لربما كان حينها التفكير سليما بأنه إن وجدت أي مشكلة عند الطالب يُسارع إلى حلها قبل أن يكبر هذا الطالب و تكبر مشكلته معه .

"يمكن نسينا بيوم إنه العرب إخوة" كانت الجملة الوحيدة التي حفظتها من كل الأنشودة، وأصبحت أرددها الآن تهكماً و سخرية

كبرت، و أنا أَحَبُ ما على قلبي أن أكون ضمن جماعة أفرح معهم، و أحزن معهم حتى لسبب لا أعرفه، المهم أن أكون بجانبهم في كل حالاتهم، بدأت أعي ما كانت تعنيه معلمتي بتلك الحركات، عندما كنت أرى في مجتمعي أن الجار لجاره، و أن الأخ لأخيه، و عندما اندلعت حربا غزة الأولى و الثانية كيف تفانينا بالتضامن مع غزة و مساعدتهم دماً و روحاً، و حتى من لا يقدر مادياً كان يدعو لهم، فرحت عندما أدركت أننا ممسكون بأيدي بعضنا لنشكل دائرة متماسكة، حقاً لقد تعلمت شيئاً و أنا في رياض الأطفال لألمسه الآن!!

وبطبيعتها الأحداث فهي لا تترك لنا مجالاً لاخذ راحة أو أن نفكر أن اليوم لا حدث كبير سيحدث، توالت تلك الثورات في بعض البلاد العربية ، قلت لا بأس أياً كان جانب الحق فيها سيتحد العربُ ليظهروه كالدائرة المتماسكة، و مرت سنة ثم التي تليها و التي تليها، لكن الأمور ما زالت على حالها بل حتى و تردت إلى الأسوأ، و كان أول ما خطر ببالي "أوبريت الحلم العربي" الذي غناه أكثر من عشرين مغنياً من مختلف أرجاء الوطن العربي.

"يمكن نسينا بيوم إنه العرب إخوة" كانت الجملة الوحيدة التي حفظتها من كل الأنشودة، وأصبحت أرددها الآن تهكماً و سخرية، كم كنت طفولية عندما كنت أنظر إلى الأمور ببراءة و يكأنها ستحدث حتماً كما رسمت، لم أرَ ذاك العربي الباسل في قصص التاريخ التي علمونا إياها، لم أرَ العربي الشهم يقف بجانب أخيه العربي في الصعاب ، كم كنتُ حقاً طفولية!
 
وفي خضم هذا السوء كله اندلعت تلك القاصمة، حرب غزة عام 2014، عندما تجرد العرب ليس من سياساتهم و لا من عسكريتهم و لا حتى من عباراتهم التي صاغوها و رتلوها و أصموا أذاننا بها في محافلهم، بأن فلسطين ستبقى القضية الأولى في مؤتمراتهم، لم يتجردوا من هذا و حسب بل تجردوا من إنسانيتهم، من كونهم بشراً يسري في شراينهم ذات الشيء الذي يسري في شرايننا، تركونا وحيدين نلملم جراحنا وحدنا، و يا ليتهم تركونا وحدنا، بل لامونا و لاموا الحرية في روحنا، لتقفز كلمات جديدة إلى ذهني.

"و لكني إذا ما جعت آكل لحم مغتصبي، حذار حذار من جوعي و من غضبي " هذه الكلمات التي انتهى بها شاعرنا محمود درويش في قصيدته "سجل أنا عربي" كانت هي ما حفظتها من بين كل كلمات القصيدة أيضاً ، لتكون اليوم سبباً لأن أبحر بمحيط من السخرية لا أجد يابسة حقيقية أرسو عليها ، و لأدرك أن ما تعلمته لا يصلح هنا ، يصلح أن أطبقه فقط على برامج الأطفال ، أن تلك الدروس حول وحدة العرب و نخوتهم هي جزء من الماضي ، الماضي و حسب ، لماذا إذاً أريدها في الحاضر و هي قد عفى عليها الزمان ؟

ربما كان هذا من الماضي ، و أن تلك الثورات التي اندلعت لم تتوقف بعد و أن الحديث عن وحدة العرب قد ملأ دفات الكتب و صفحات الجرائد و تردد على ألسنة الفضائيات ، لكنني أدركت الأمر الأهم ، أننا في رياض الأطفال كان إن أتى طالب إلينا من الفصل المجاور ، طردناه لأنه ليس من فصلنا ، و كذلك نحن !! .

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.