شعار قسم مدونات

صديقي المتخاذل!

blogs - duaa

جاءني قبل سنوات صديق قديم لم أعرف له علاقة بالتديّن ولا اهتماما به، يسألني عن الدين والشريعة وعن العلاقة بين الإسلام و الأديان و أسئلة أخرى رأيت أنها من الغريب أن تأتي منه، أخذت الأمر بعفوية في البداية وكنت أجيبه بما أعرف فأجده يزداد فضولا وتزداد أسئلته واستمرّ حاله هكذا عدة أيام.

كان يعطيني من اهتمامه ما لم أألف منه، كثير من الأسئلة وساعات من الحديث وكثير من التصفح في الكتب والمواقع دون ملل، كنت سعيدا بالتحول الذي طرأ عليه واعتبرت الأمر حسنا مادام صديقي يسعى للمعرفة وكنت سعيدا بنفسي مادمت أُفيده وأساهم في اطلاعه على أمور جديدة عليه ولكن الذي بقي يشغل بالي طيلة تلك المدة هو كيف له أن يقوم بكل هذا دون أن ينعكس ذلك النّهم المعرفي على سلوكه وتديّنه.

في الحقيقة دفاعه عن الإسلام لم يكن بدافع الغيرة عن دينه بقدر ما كان دفاعا عن نفسه لأنه "مسلم" و لأن قبول "الآخر" للإسلام يجعله هو مقبولا. 

سألته مرّة عن سر هذا التحول الكبير في اهتماماته و أولوياته فقال لي أن كثيرا من تعاليم الإسلام "صعبة" و أن الغرب يحمل صورة مشوهة جدا عن الإسلام ومثل تلك التعاليم لن تُقنعه -الغرب- بقبول هذا الدين.

واصلت "النبش" فاكتشفت أن وراء كل ذلك التحول هو مجرد "عشق ألكتروني" فقد صارحني أنه تعرّف على فتاة أمريكية عبر الإنترنت وأعجب بها وأعجبت هي به ولكن بعد أن أخبرها أنه مسلم اكتشف أنّها تحمل صورة سئية عن الإسلام فكان يبذل كل تلك الوقت والجهد فقط ليُظهر لها أن فكرتها خاطئة وأن الإسلام ليس كما تعرفه هي.

وقد نجح -حسب ما يرى- نسبيا في تغيير كثير من قناعاتها قبل أن يصارحني مرة أخرى بأنه لم يعد يريدها بل تعرّف على فتاة أخرى -عبر النت كذلك – ولكنه يجد نفسه في كل مرة يرجع إلى الأميركية الأولى ليحدثها عن الإسلام و حقيقته  صارت كل أحاديثه معها حول هذا الموضوع بينما الثانية التي أصبح يُريدها -حسب قوله- فيحدثها في مواضيع متعددة لأنه وجد أنها تتقبله كما هو.

بعد أن عرفت القصة و فهمت "السر" رأيت أنه قد حان دوري للحصول على إجابات فسألته: "لماذا تبذل كل ذلك الجهد لتثبت للآخرين أن إسلامك جيّد و لا تبذل عُشر هذا الجهد لتثبت لنفسك أنك جيّد في إسلامك ؟" أحرجه السؤال طبعا وبدأ يلتف ويدور دون أن يقول شيئا مقنعا ثم سرعان ما انتقل إلى موضوع آخر هربا من ذلك الحرج.

في الحقيقة دفاعه عن الإسلام لم يكن بدافع الغيرة عن دينه بقدر ما كان دفاعا عن نفسه لأنه "مسلم" ولأن قبول "الآخر" للإسلام يجعله هو مقبولا عند هذا "الآخر". فالفتاة الثانية التي قبلته كما هو لم يجد نفسه مضطرا معها لتبرير موقفه "كمسلم" فغايته هي أن يكون مقبولا وأن لا يتم تصنيفه أو الحكم عليه بناء على دينه.

يمكننا أن نعدد الأسباب الاجتماعية والنفسية لسلوكه و يمكننا التعمق في فهمها ولكن الذي أريد أن أشير إليه في مقالي هذا مختلف نوعا ما، فمع كل المآخذ التي يمكنني أن أسجلها على صديقي يبقي في نظري أفضل من الكثير ، ممن يتنصلون من دينهم في أول امتحان مشابه فعلى الأقل لم يضع دينه محل مقايضة و سعى لنيل قبول صديقته دون أن يسمح لنفسه بالتنصل من دينه و تصور أنه في وسعه نيل الغايتين رغم أنه مخطئ في نظري و سلوكه ينبئ عن ضعف فادح في شخصيته قد يؤهله لاحقا ليكون من هؤلاء "المتنصلين".

هذا الضعف في الشخصية الذي رأيته لدى ذلك الصديق أصبح واقعا نعيشه ونراه في سلوك كل من يمتلك ذرة انتماء للإسلام فتجد الشخص لا يستطيع أن يتنّصل من دينه ولا يستطيع أن يتبرأ منه وفي الوقت ذاته يريد أن يؤنس نفسه بقبول "الآخر المرغوب" لدينه.

ماذا لو يعمل الجميع على إظهار كم هم "جيدون في إسلامهم" بدل الإيحاء بأن هذا الدين لا يكون جيدا إلا بالتنازل عن جزء منه.

و بدلا من إظهار الإسلام و تقديمه على حقيقته التي يؤمن بها تجد كل واحد يقدم الإسلام "للآخر" بالطريقة التي تجعل هذا "الآخر" يقبله حتى و لو قدّمه بطريقة مشوهة "متخاذلة"، تماما كصديقي الذي حدثتكم عنه، والذي بقي لأسابيع يبحث عن آيات أو أحاديث تنفي حقيقة أن الإسلام يبيح التعدد في الزواج لأن الصديقة الأميركية التي فاتحته في هذا الموضوع يستحيل أن تتقبل دينه الذي يبيح هذا "الانتهاك".

و المؤسف أن هذا الضعف الذي نظهره لإرضاء الآخر صرنا نظهره كذلك لإرضاء نفوسنا المتراخية ورغباتها، فيصير الرجل الذي لا يستطيع التبرؤ من تدينه يُظهر أن إسلامه (كوول)، والمرأة التي لا تستطيع أن تنكر الحجاب تُظهر أن الإسلام الحقيقي "في القلب"، والسياسي الذي يريد رضا الغرب يُظهر أن الجهاد ليس من الإسلام، والشاب الذي يُريد الاندماج في بيئة شهوانية محرّمة يُظهر أن الإسلام متسامح مع الميوعة وصديقي الذي يريد الأمريكية يظهر أن التعدد ليس من الإسلام وهكذا.

و لكن… ماذا لو يعمل الجميع على إظهار كم هم "جيدون في إسلامهم" بدل الإيحاء بأن هذا الدين لا يكون جيدا إلا بالتنازل عن جزء منه!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.