شعار قسم مدونات

فرص لا تضيء

blog- القمر

بليلةٍ غاب عنها قمرُها وتركها حالكةَ السواد، بطريقٍ ساحلي افتقر لأعمدة الإنارة تنيره على خجلٍ مصابيحُ السيارات المسرعة على جانبيه، عن يميني يقبع البحر بسكونٍ في ظلامٍ داكن، لم أرَ تدافع أمواجه ولم أسمعها، ولولا أني أثق بوجوده ثقة وجودي على ذاك الطريق تلك الليلة لقلت أنه ما وُجد هناك أبدا، وعن يساري يرقد الجبل في سكونٍ وصمت، وكالبحر لم أره في الظلام ولكني أقسم أنه كان هناك، من المذياع يصلني صوت شجي يغرد بلهجة لبنانية، هو صوت فيروز دون شك، لست ممن اعتاد سماعها، ولكني -ككل شيء- أقسم أنها كانت هي، في تلك الليلة بعد أن ابتعلني الظلام كما ابتلع كل شئ دوني، رأيت النجوم كما لم أرها من قبل.

نُثرت السماء بلآلئ لامعة، العشرات منها بل ربما المئات، بنظامٍ ساحرٍ أخاذٍ فُتنت به، وتمنيت لو كنت أهتم للفلك من قبل وأعرف أسماء تلك الجميلات، فلناجيتهن بأسمائهن في خلوتنا تلك، فأنا والنجوم كنا نسبح وحدنا في الظلام، وثالثتنا كانت فيروز.

أطيل النظر أكثر في النجوم، أفكر فيما هو دون النجوم وفقدناه معها وسط الصخب، فكم من فرصٍ كالنجوم تخبو بين الأضواء المبهرة المصاحبة لغيرها من أشباه الفرص!

تمضي الحافلة بي، وكلما اقتربت من بؤرة ضوء على الطريق، خفت بريق جميلاتي وانطويْن، وما يلبثن أن يعدن إلى توهجهن وبريقهن إن غرقنا في الظلام من جديد، أخرجت جوالي لألتقط لهن بعض الصور، فكم وددت لو احتفظت بهن إلى الأبد، ولكن أثرًا لهن لم يظهر على شاشته، تمامًا كما لا يظهر لهن أثرٌ بالمدينة.

بدى الأمر وكأنهن يهربن من الإنسان، من تطاوله في البنيان، من تقنياته المعقدة وآلاته الحديثة، بل ومن حضارته المدنية الحديثة كلها، يفضلن الاندماج بالطبيعة وحدها، يعزفن معها لحن الجمال الخلاب في منأى عن يد الإنسان.

تداعبني حينها ذكرى يوم كنا نراقب السماء كل ليلة علّنا -أنا وأختي- نرى نجومًا ذات ليلة، ولكن بلا أي أملٍ، فلم يعشق ليل سماء المدينة سوى القمر، يرسل ظلاله تتغزل في جنباتها كل ليلة، ولغيابه تغط السماء في ظلامٍ تؤنسه أنوار المدينة.

يعيدني ذاك لذكرى غارقةٍ في القدم بإحدى حصص الفيزياء بالمدرسة، أخبرتنا المعلمة حينها بأننا نرى ما يصل أعيننا مما تبثه أو تعكسه الأشياء من أشعة الضوء، وحينما تغيب أشعة الضوء تكتسي الصور في أعيننا بالسواد، لهذا لم أرَ الجبل ولا البحر رغم أني أقسم بوجودهما من حولي، فهما يقبعان هناك منذ فجر التاريخ، لكنهما لم يجدا من الضوء ما يكفي لإثارة حاسة الإبصار بعينيَّ.

كذا النجوم التي تتلألأ دون حاجة لمضئ يمدها بضوئه، يتبدد ضوؤها كل مساء بين أضواء المدن المبهرة والصاخبة، فتنحسر عن أعيننا وعن المشهد الغريب عليها وهي ممتنة؛ فهي لا تنتمي لتلك المدن ولم تستسغ وجودها يوما، أما هناك في أبعد النقاط عن صخب المدن تتلألأ بكامل زينتها كل مساء، تنتظر من قرر الهرب من الصخب.

أسرح بخيالي أكثر وأتخيلنا ندرس الفيزياء في حضن الطبيعة، ونرى تلك السطور المبهمة في الكتب تتجسد من حولنا في البحر والجبل والنجوم، فإذا بها سهلة طيعة أمام عقولنا الصغيرة، وأبتسم.

أطيل النظر أكثر في النجوم، أفكر فيما هو دون النجوم وفقدناه معها وسط الصخب، فكم من فرصٍ كالنجوم تخبو بين الأضواء المبهرة المصاحبة لغيرها من أشباه الفرص! فرصٌ كالنجوم عالية فاتنة قادرة على بثك في عوالم أخرى وأقدار أخرى، غير أن عيبها أنها لا تضيء بما يكفي لتلفت أنظارنا، أو عيبنا -نحن- أننا لم نهرب مما تبثه أعراف مجتمعاتنا الحديثة من أضواء مبهرة تطغى على ما دونها من فرصٍ غير مألوفة وإن كانت لامعة.

أفكر في كم الفرص التي أضعت وأنا لاهثة خلف السراب اللامع، وأتمنى لو كنت أختلي بنفسي كل حين لأصطاد فرصي التي لم تضئ في عينيَّ.

ففرصةٌ قد تفتح لك طريقًا إلى شغفك يتلاشى كل بريقٍ لها أمام الوظيفة ذات الوجاهة الاجتماعية اللامعة والدخل الثابت، وفرصة السفر والانطلاق كشابةٍ تكتشف العالم لا مجال لها أمام لمعان فكرة اللحاق بقطار الزواج كما يروج لها المجتمع ويزدري من تأخر زواجها.

وفرصة الزواج ممن اصطفاه القلب والعقل تصير عدمًا أمام فرصة العريس اللامع القادر أن يدفع أكثر، وفرصة الخروج عن المعتاد لتجربة جديد يتبدد أي أملٍ لها أمام أدوار المسئولية التي أسندها إليك المجتمع كدور بطولة، دور النجم مقصد كل ضوء.

سأظل أعد فرصًا لا تنتهي، حتى يتوه العد مني ولا أنتهي، فرصٌ لم ننتبه لها بعد أن عُمينا بأضواء كاذبة، وأنت أعلم مني بكم الفرص التي فاتك الانتباه لها بينما تطيل النظر إلى الفرص التي صبغها المجتمع بضياء رضاه.

هكذا فعلت بنا مجتمعاتنا الحديثة بتقاليدها وأعرافها، جعلتنا نخشى الجميل، ونقنع بكل ما هو مصطنع، نتجاهل النجوم المضيئة، ونغازل القمر الذي لا يملك من ضيائه شيئا، أنلوم النجوم بعدها إن فضلت الهرب منّا؟!

لازال يصلني صوت فيروز يشدو، أفكر في كم الفرص التي أضعت وأنا لاهثة خلف السراب اللامع، وأتمنى لو كنت أختلي بنفسي كل حين لأصطاد فرصي التي لم تضئ في عينيَّ، ولتكن تلك نصيحتي؛ اهرب لتبحث عن فرصك التي لا تضئ وسط بؤس أعراف المجتمع، وحين تهرب لتختلي بنجومك لا تنس أن تكون فيروز ثالثتكم.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.