شعار قسم مدونات

يزن.. ابن الحصار

blogs - syria

يزن.. طفل من داريا، يبلغ من العمر ما بلغ الحصار من أعمار أهل داريا، فتح عينيه ليجد أن حليب أمه لا يكاد يصل إليه إلا بما يسد رمقه، فقد أدرك مبكراً وقبل أن يعي نطق الحروف أن الجَلَدَ والصبر سمة مَن حوله ولا بد له من اكتسابها لينجو من ضيق الحصار.
 

وصل يزن برفقة أمه وأبيه وإخوته إلى مركز الإقامة المؤقت بقرية حرجلة بريف دمشق، بعد رحلة تهجير استمرت حوالي أربع سنوات حاول فيها النظام ثني أهل داريا عن صمودهم حتى استطاع أن يخرجهم في مشهد يعيد للأذهان تهجير اليهود لأهالي القرى والمدن الفلسطينية قبيل النكبة وبعدها.
 

يتناول يزن اللقمة الأولى من أشياء يراها للمرة الأولى في حياته؛ ففي الحصار لا شيء سوى حساء تحضره أمه كل يوم

في حرجلة يتهافت الناس لخدمة أهل داريا الذين لم يدافعوا عن داريا فحسب بل دافعوا عن مبادئ ثورة آمنوا بها وتجسدوها.

 يجد يزن نفسه محاطاً بالأطفال الذين يجلبون للطفل الضيف ما تمنى حتى قبل أن يطلب أو ينبس ببنت شفة، فهذه يد تعطيه من الحلوى، وأخرى تعطيه المثلجات.
 

يتناول يزن اللقمة الأولى من أشياء يراها للمرة الأولى في حياته، ففي الحصار لا شيء سوى حساء تحضره أمه قبيل مغرب كل يوم، لقيمات يُقمن صلب الإنسان ويحفظن روحه أن تُزهق من الجفاف أو الجوع.

يتناول يزن اللقمة الأولى بتلذذ يستدعي كل النكهات من ذاكرته ليقارن بينها وبين ما تذوق فيفشل: "لعلي أتذوقها للمرة الأولى" يخاطب نفسه، ويمضي ليتذوق حلوى مختلفة ويعود للمقارنة ذاتها فيفشل في أن يجد بخبايا ذاكرته نكهة مماثلة.
 

يحمل الحلوى ويتأملها، لعل صورتها توحي له باسمها، أو لعله يتذكر من لونها وقوامها، يقارن بينها وبين وجبته الوحيدة التي كان يتناولها عند غروب شمس كل يوم فلا يجد تقاطعاً بينها، هذه حلوة المذاق طيبة النكهة والرائحة، "طعامنا كان مراً دون نكهة، لم أكن لأميز كثيراً ما كنت آكله، فلا ضوء أرى على نوره الطعام، وأمي لم تكن تسمح لي بالاقتراب من الحطب الذي تطهو عليه خوفاً من أن أحترق".
 

يرجع للمقارنات فلا يجد أوجه تشابه، "أمي كانت تذهب صباحاً تبحث لدى من تعرف لتعود بحفنة عدس أو حبوب لا أميزها، وإن لم تجد فتطلب مني ومن أخي أن نجمع حشائش من جوار منزلنا لتغليها لنا ونشربها حساءً". يئس يزن من أن يجد تقاطعاً بين النكهات المحفورة في ذاكرته وبين ما يمسك بين يديه..
 

وحين يعجز يذهب إلى أمه ليعلن لها فشله في معرفة أسماء هذه الأشياء التي منحه إياها أقرانه، فتبدأ أمه بتهجئته أسماءها حرفاً حرفاً، كطفل في بداية نطقه "ب س ك و ي ت" يحاول تكرارها فتتداخل الحروف في مخيلته، يسمع الكلمة للمرة الأولى.. يحاول.. ينجح.. تطربه الكلمة، ثم يعاتب أمه "لماذا لم تحضري لي (البسكويت) من قبل"؟ فتطرق رأسها خجلة، بماذا تجيب ابنها الذي ذاق الحرمان قبل أن يذوق البسكويت والحلوى.

ماء.. ملح.. أعشاب.. عدس، يحسب على أصابع يده النكهات التي يعرفها مذ تكون وعيه فلا يجدها تتجاوز أصابع يده الواحدة، يستدرك: "كذلك نكهة التراب، النكهة التي كانت تقتحم أفواهنا في ذلك الخندق الذي حفره أبي لنأوي إليه كلما سقط برميل أو قذيفة، وما أكثرها.
 

 يقولون إنه خلال سنوات عمري في هذه الدنيا التي تعادل سنوات الحصار تلقت مدينتنا من السماء ما يزيد على ستة آلاف برميل.
 

خارج الغرف التي خصصت للعائلات، هناك بهو تتعالى منه أصوات الأطفال الفرحين بالمساحات التي حرموا منها خلال الحصار.. يركضون ويلعبون. 

وعلى مقربة من الغرفة التي منحت ليزن وعائلته في مركز الإقامة المؤقت وبينما كان يستكشف البسكويت ويتذوقه بشغف وحب، كان هناك طفلان في الثالثة والخامسة من عمرهما يكتشفان الخضار والفاكهة التي يشاهدانها للمرة الأولى كذلك.
 

وخارج الغرف التي خصصت للعائلات، يوجد بهو تتعالى منه أصوات الأطفال الفرحين بالمساحات التي حرموا منها خلال الحصار، يركضون ويلعبون، وطفل في أحد جوانب الباحة منكمش على ذاته ينتظر البرميل القادم أن يهوي فوقه.
 

في مركز الإيواء بدأت حياة جديدة ليزن وأقرانه من أبناء الحصار.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.