شعار قسم مدونات

لماذ لا يحب السودانيون فصل الخريف؟

تداعيات الفيضانات

منذ السنوات الأولى من المدرسة، يحفظ السودانيون أهزوجة شعرية مدرسية تشبه إلى حد بعيد، حياة الريفيين في القرى المتقطعة، وتحمل بشرياتهم بقدوم فصل الخريف، تقول الأهزوجة:

 

حلّ الخريف حلّ.. أهلًا به وسهلا

الزرع فيه أخضر.. والخير فيه يكثر

 

في الواقع، هذه الأهزوجة معبرة بنسبة مئة بالمئة، وتجسد آمال طيف واسع من الريفيين في السودان، لكن الصحيح أيضًا أنها مضللة بالقدر نفسه، إذ يمثل فصل الخريف كارثة كونية "قميئة" بالنسبة للسكان الذين اختاروا حياة المدينة أو شبه المدينة.

 

ففي الريف، طوّر السكان حياتهم لتتكيف مع مواردهم القليلة، وانتبهوا من وقت مبكر إلى الاهمال المتعمد الذي توليهم له الدولة الرسمية، لذلك لا ينتظرون منها شيئًا على العكس من سكان الحضر، الذين ينتظرون الدولة الرسمية كي تطلع بدورها في تصريف حياتهم وتدرأ عنهم أي كارثة محتملة يسببها الخريف!

 

لذلك ربما يسارع أحد المعلقين السياسيين أو الاقتصاديين للزعم بأن السودانيين يكرهون فصل الخريف، ولا يحبونه مستندا في تعليقه على المشقة التي يعانيها سكان المدن في هذا الفصل، أو ربما لاعتبارات أخرى تتعلق بفقر الخيار والكسل الذي لازم الحكومة الرسمية، وجعلها غير قادرة على

متى ما جاء فصل الخريف فإن هوة عدم الاتصال تتسع بين القرى السودانية  وتتقطع حتى الطرق البرية القليلة التي تربط بينها جغرافيا

الاستفادة من مساحة زراعية تقدر بحوالي 84 مليون هكتار.

 

 أي ما يعادل 200 مليون فدان والذي يزرع منها بانتظام يمثل أقل من 10 ملايين هكتار ( 74 مليون هكتار – 88 بالمئة )، وحتى هذه المساحة المتواضعة تزرع بطريقة متقطعة في حالة توفر الأمطار الفاعلة.

 

ومما سبق يمكن استشراف الثنائية العجيبة التي يعيشها السودانيون بوصفهم ريفًا كسيحًا تجره مدنًا كسيحة، في مراوحة معكوسة لمقولة الفيلسوف المصري جمال حمدان حين وصف القاهرة بالنسبة للريف المصري: "الرأس الكاسح والجسد الكسيح".

 

 وبالنظر إلى هذه الازدواحية بين الريف والحضر، فإن فصل الخريف يعمّق منها بشكل شديد الفاعلية، إذ يعاني السودانيون من معضلة التواصل بينهم في بلاد مترامية الأطراف، ويذهب البعض إلى أن هذا التباعد وعدم الاتصال هو السبب الحقيقي في هذه الحروب التي تعنوِّن مسار دولتهم الحديثة.

 

 ومتى ما جاء فصل الخريف، فإن هوة عدم الاتصال تتسع وتتقطع حتى الطرق البرية القليلة التي تربط بينهم جغرافيا، ونجد تلك الفرضية في عدم تواصل السودانيين فيما بينهم ماثلة أمامنا منذ الأسبوع الماضي إذ تسببت الأمطار والسيول التي صاحبتها في قطع الطرق الرابطة بين 8 ولايات من أصل 18 ولاية من ولايات السودان.

 

نعود لنتساءل لماذا لا نحب فصل الخريف؟ فصل الخريف يعني مزيدا من الخسائر في الأرواح والممتلكات، إذ حملت الأنباء منذ مطلع شهر أغسطس الحالي نبأ وفاة 177 مواطنا في عموم ولايات السودان جراء السيول والأمطار.

 

يعني الخريف في طلاته السالبة أيضا انهيارا في البنى التحتية للدولة، إذ تنقطع الطرق القومية الرابطة بين الولايات، وبالفعل قطعت الأمطار التي هطلت مؤخرا ست طرق قومية تربط بين أكثر 145 قرية، لتزيد من حالة عدم التواصل بين السودانيين المتهمين بعدم معرفتهم العميقة ببعضهم بسبب قطرهم المترامي الأطراف.

 

لا تتوقف أضرار الخريف عند هذه النقطة، فنسبة الفقر، بحسب آخر احصائية، في العام 2009 أشارت إلى أن 46.5 بالمئة من سكان البلاد تحت مستوى خط الفقر، ويتجلى ذلك في فصل الخريف، إذ أدت الأمطار إلى انهيار أكثر من 2780 منزلاً وفق تقديرات منظمات طوعية في ثلاثة ولايات.

 

السودانيون يعانون في الخريف من ارتفاع أسعار الخضراوات بصورة مضاعفة، فالخضراوات التي تنتج محليا تزداد مع ارتفاع نسب هطول الأمطار

كل ما سبق لا يمثل جل المخاوف، فالسودانيون يعانون في فصل الخريف من إرتفاع أسعار الخضروات بصورة متضاعفة، فالخضروات التي تنتج محليا تزداد مع ارتفاع نسب هطول الأمطار، إذ يعني ذلك غرق البساتين الزراعية، وجرفها من قبل فيضان النيل، حيث تتمركز تلك البساتين على ضفاف النهر غير المسيطر على حوافه.

 

لتكون المعادلة الحسابية للخضروات في السودان كالآتي: استمرار هطول الأمطار إلى جانب غرق البساتين، يساوى ارتفاع أسعار الخضروات.. وبالطبع عملية تحديد السعر لا ترتكن لنشرة حكومية، إنما تعود إلى تقديرات المزارع نفسه الذي يقدر حجم ضرره ويضعه على قيمة إنتاج محصوله.

 

في لحظة ما، نستطيع الجزم بأن الخريف يمثل بالفعل كارثة سنوية في الحضر والريف، غصبا عن الأهزوجة المدرسية الرشيقة، إذ تكثر فيه الوفيات بسبب انتشار الأمراض مثل مرض الملاريا الذي ينقله البعوض، وكذلك مرض الدسنتاريا، وهنا ينكشف تماما غياب المراكز والمواعين الصحية.

 

وليس من المستبعد، بل هو من المؤكد أن يموت المئات بسبب لدغات العقارب والثعابين، حيث لا أمصال ولا أسعافات.. هل يكره بعض السودانيين فصل الخريف؟ نعم، وهم محقون في تلك الكراهية!.

 

لكن قبل ذلك، دعونا نسأل سؤال آخر أكثر واقعية: أين الحكومة السودانية من ذلك؟ تأتي الإجابة في قالب من السخرية تشير إلى أنها (الحكومة) لا تكترث لحالة الموت والدمار.

وهي إجابة أتفق عليها كل المسؤولين على مختلف مناصبهم طوال العشرين سنة الماضية: فاجأنا الخريف هذا العام بقدومه المبكر! حتى باتت عبارة "فاجأنا الخريف" مثلا شعبيا دارجا، يقال عند فشل الشخص في الإعداد والترتيب المسبق لكل أمر ما.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.