شعار قسم مدونات

الطلقة ما قبل الأخيرة

blogs - ale
كان مُحتمياً بما تبقى من ركام المنزل، عيناه تحدقان في المدى المرسوم أمامه، تترقبان أي حركة تثير الدهشة، كانتا كلما لاح شيء في هذا الأفق، تزداد أحداقه لمعاناً.

يتربص الوقت منتظراً اللحظة المناسبة، مثل الصقر تماماً عندما يريد الصيد لا يشغله شاغل عن فريسته، يحبس أنفاسه ويرصد عدد الثواني بين الشهيق والزفير، يستطيع أن يرسم سداً عاتياً من التركيز أمام سيل الأفكار التي ترتطم بجدار مخيلته بين الفينة والأخرى، في هكذا لحظات يستطيع أن يشتعل قلبه من بين أضلعه، فلا يكاد نبضه يُسمع، وحتى تلك الخفقات التي تبقيه على قيد الحياة لا تسطيع أن تمنحه البقاء على قيد الإنسانية. لم يستطع أن يبعد فكرة الموت عن مخيلته، فهي الوحيدة التي تنجح مراراً وتكراراً بأن تخترق جدار التركيز الذي بناه. قي تلك اللحظات يرتسم في ذهنه مشهد النهاية، هل هي من رصاصة طائشة متهورة، أو من شظايا قذيفة مبعثرة في فضاء المكان. كانت هذه المشاهد تداهم مخيلته، تجعله رهينة كل لحظة التي يعتبرها هي الأخيرة.
 
ما هي إلا بضع ثوان يتسلل إلى مسمعه صوت هدير يقترب شيئاً فشيئاً، يبتلع لعابه بكثير من الحذر، ينصت إلى صوت اللعاب حين يسري عائداً باتجاه حنجرته لكن دون أن يغفل عن صوت الهدير الذي يقترب من المكان. مثل أفعى يتحرك بمكانه دون أن يغير مكان استلقاء أطرافه على الأرض قيد أنملة، تسارع النبض يزداد مع اقتراب الهدير، خفقات قلبه كعادتها تتناسب طرداً مع عدد دورات المحرك، استطاع بشيء من الفراسة أن يدرك طرازالطائرة التي سيطغى هديرها بعد لحظات، وقبل أن ينتهي من نطق أخر حرف من اسمها استطاعت عيناه أن تراها، وقبل أن يسدل عيناه إلى الأسفل بقليل يتبعها صوتها الجارف الذي يمحي كل الأفكار بلحظة دون سابق إنذار. يتوقف العقل ويعلو صوت جنون هذه الحرب مدوياً، ويترك من بعده صمتُ لا يتخلله سوى صوت النبض الذي لايدل على شيء وإن دل على خوف يمزجه فرح عارم بأنها ليست اللحظة الأخيرة.
 

آخر من ارتسمت صورته أمام العدسة، صبي كله غبار هذه الحرب، يمسح ما تبقى من عطر دمائه عن وجهه، لم يبكِ قط، لكنه أبكى العالم

يمنح نفسه حرية الإبتسامة ويترك الحرية للشهيق والزفير بضع لحظات، ويعود إلى وضعه، الشيء الوحيد الذي لم يتغير هو تلك النظرة التي بقيت تنسدل دون الحراك، والتي لم يتغير مسارها أبداً، 
وأصبعه التي لا تحيد عن زناد سلاحه، وأي مقاتل في هذه الحرب يعرف الراحة هكذا دائماً كان يمنحه نفسه شيء من الإطمئنان، نعم مقاتل لكن من نوع أخر، هكذا كان يحدث نفسه سراً. باغته صوت الإنفجار في هذه اللحظة، تخلى عن كل شيء وانتزع نفسه من مكمنه وراح يشق عباب الأرض ركضاً، وجميع الصور اختلطت في مخيلته، ربما نسي أنه صنف بشري لم يعد يبالي بما تبقى له من العمر، ولم تعد فكرة الموت تطوق ما تبقى من خياله، كل ما يشغل تفكيره هو أن يتبع رائحة الموت التي تمتزج بعبق الدم، وخطواته المتسارعة تطحن ما تبقى من ركام هذه المدينة، وسلاحه في يده، وأصبعه لا تحيد عن الزناد.
 
في كل مرة كان يركض فيها كان يشتم ذاك النيكوتين الذي يسري برفقة الدم يشعره بالتعب، لكن عاهد نفسه ذات يوم أنه لن يتوقف أبداً قبل أن يتوقف القلب نفسه عن عمله، كان يراهن على ما بقي من حياته مثلما الذي احترف المقامرة، ويعرف نفسه أنه سيربح الرهان، للمرة الثانية يمنح نفسه حرية الابتسامة مرة أخرى. ما هي بضع خطوات حتى وصل موقع الإنفجار، صوب فوهة سلاحه تجاه الحشد الذي خيّم فوق الركام، ينتشل بقايا بني البشر، وضغط على الزناد، نعم مقاتل من نوع آخر، راح سلاحه يعتقل تلك اللحظات ويحفظها في ذاكرة الكاميرا؛ لأن ذاكرة الإنسان لا تطيق الاحتفاظ بها، كانت تلك الصورة هي الطلقة ما قبل الأخيرة. التي تمنح تلك الأحداث خلوداً لا نظير له، وآخر من ارتسمت صورته أمام العدسة صبي كله غبار هذه الحرب، يمسح ما تبقى من عطر دمائه عن وجهه، لم يبك قط لكنه أبكى العالم.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.