شعار قسم مدونات

الإسلام السياسي وإشكالية النقد الذاتي

blogs-إسلام

أصبح الإسلام السياسي في عموم العالم الإسلامي جزءا أصيلا في الخارطة السياسية بعد أن أثبت حضوره القوي على كل الصعد الثقافية والفكرية والأدبية.. إلى جانب الحضور السياسي.

 

ثمة إشكالية ثقافية ترافق هذا الانتشار الجماهيري الواسع، وهي مسألة تقبل النقد الصادر من الآخر؛ ونقد الذات الذي يتأتى من المراجعة المستمرة للنهج الذي تتعامل به الحركات والجماعات السياسية؛ مراجعة الذات ونقدها نقدا بناء يؤهلها لاستدراك العيوب، ودعم مواطن القوة،
 

ثقافة الوصاية البابوية على الإنسان متجذرة في ثقافة الشرق، فهي كالماء والهواء، فسلطة الحاكم بأمره تبدأ من الأسرة وتنتهي بالسلطان ظل الله في الأرض

فالتجارب السياسية المستندة للمرجعية الاسلامية تجارب بشرية لا تأخذ قدسيتها من قدسية الإسلام كدين؛ بل منطلقات تسترشد بمرجعية الإسلام، وتتخذه نهجا تؤسس عليه حراكا إنسانيا؛ يعتروه ما يعتور الطبيعة البشرية القائمة على أساس الخطأ والصواب، لذلك؛ الإسلام السياسي تجربة انسانية قابلة للنقد والمراجعة والتصحيح بحسب الخبرة التراكمية للعاملين في الحقل السياسي، وهي خبرة قصيرة نظرا لكون الإسلام عزل عن الحياة السياسية على مدى قرنين.
 

عدم قبول النقد، وعدم مراجعة الذات، مأخذ قوي يؤخذ على العاملين في الحقل السياسي الإسلامي، وسبب هذا الإشكال من وجهة نظري يعود إلى أمرين :

1- توهم البعض؛ خصوصا في بداية القرن العشرين ان عصمة الاسلام تنجر على العمل السياسي الإسلامي! لأنها دعوة لتغليب حاكمية الله تعالى على البشر، ومعارضة هذه الحاكمية كفر وفق هذا التصور، وبالتالي نقد هذا المسار كانه نقد لهذه الحاكمية، لذلك؛ في تلك المرحلة كانت بعض الجماعات تقول نحن جماعة المسلمين! ما يعني عدم الانخراط فيها خروج على هذه الجماعة!. 
 

2- ثقافة الوصاية البابوية على الانسان متجذرة في ثقافة الشرق، فهي كالماء والهواء! فسلطة الحاكم بأمره تبدأ من الأسرة وتنتهي بالسلطان ظل الله في الارض! فالأب في الاسرة هو الحاكم بأمره، والمعلم في المدرسة، والمدير في العمل، والمختار في الحي….. وهكذا حتى أن الإنسان الشرقي غير قادر على تصور نفسه يحيا بلا وصاية أحدهم عليه!.
 

الجماعات الإسلامية جزء من هذا الواقع، وهي تحمل كل حسناته وعيوبه ومثالبه، لذلك هي جزء من الثقافة العامة التي ابتلي بها المجتمع.
 

مخرجات هذا الإشكال..
 

عدم قبول المراجعة والنقد الذاتي انعكس على شكل آثار قيدت العمل، وساهمت في تاخير تحقيق الإسلام السياسي أهدافه بالوصول للحكم ومن هذه الاثار:

أ- الجمود الحركي الذي سببه عدم تحرك دورة الحياة داخل كيان الجماعات الإسلامية، فالإنسان بحسب الثقافية الاسلامية يزداد قيمة في التنظيم كلما اكتسب اقدمية دعوية، لذلك، حين تختار الجماعة شخصا في موقع قيادي داخلها؛ يأخذ تأبيده في هذا الموقع! لايزيحه إلا الموت، وإن قيل له تنحى وأفسح المجال لغيرك ينقلب على عقبيه ويقلب لجماعته ظهر المجن.
 

ب- شخصنة العمل السياسي وغياب المؤسسية، وكأن انفراد النبي صلى الله عليه وسلم المدعوم بالوحي مبرر لوجود (الحاكم بأمره) داخل الجماعة، يدعم ذلك العشرات من النصوص التي جائت تطالب المجتمع بطاعة الامير، والتي انزلت على العمل السياسي الحزبي إنزالا.

ج- بروز ظاهرة التهميش داخل صفوف الاحزاب والجماعات الإسلامية خصوصا لشريحة الشباب والنساء، ما يستدعي حصول انشقاقات داخل الصف على فترات، حيث تخرج حركات تصحيحه تؤسس لأحزاب جديدة؛ سرعان ما تكرر أخطاء الأحزاب التي انشقت عنها.
 

يمكن اعتبار الاتحاد الإسلامي في كردستان العراق نموذجا لتيار حركات التصحيح في إطار العمل السياسي الإسلامي

حركات التصحيح.. الاتحاد الاسلامي نموذجا..
 

في هذا الخضم وهذا المعترك الثقافي المر برزت تيارات تصحيحية تحاول أن تؤسس على ارث الماضي حراكا يقفز على هذه الأخطاء، ويؤسس لعمل يعصرن مفهوم العمل السياسي الإسلامي الذي يوازي بين السياسة والدعوة، هذه التيارات اسس لها جيل من الشباب المتنور الذي فهم طبيعة الحراك الإنساني وفق السنن الارضية على ضوء قراءة تجارب الآخرين، وأخطاء الأقدمين.
 

ويمكن أن أعتبر الاتحاد الإسلامي في كردستان العراق نموذجا لهذا التيار في إطار العمل السياسي الإسلامي بحكم اني عشت في الإقليم عشرون عاما، وواكبت الساحة السياسية فيه، وقتاعتي جاءت للأسباب التالية:
 

أ- مرونة النظام الداخلي للحزب، والتي أقرت العمل المؤسسي، بحيث جعلت القاعدة العريضة من جماهير الحزب مرجعية أعلى في كل مرجعيات الحزب، وهي (المؤتمر العام) الذي كان يعقد كل 3 سنوات ابتداء ثم أصبح كل اربع سنوات لاحقا، ويملك هذا المؤتمر صلاحيات تغيير كل شيء في الحزب، من الاسم إلى الشعار إلى المنهاج والاهداف، انتهائا بالقيادات من خلال آلية التصويت.
 

ب- أتيح لي متابعة ست مؤتمرات عقدها الحزب بانتظام، لاحظت صعود الخط البياني لعمليات المراجعة، والتأسيس للعمل المؤسسي الذي يبتعد عن الشخصنة، على سبيل المثال الأمين هو أعلى منصب أداري في الحزب، ومن يدير الحزب مؤسسة الأمانة العامة وليس شخص الأمين العام، بحيث أن تغييره يمر كحدث طبيعي، بمغادرة شخص وتولي شخص تالي كما حصل في المؤتمر السادس، ولايزال الحزب يعمل بنفس الروح والمنهجية.
 

ج- في المؤتمرات التي سبقت المؤتمر السادس، كانت قيادات الحزب تبادر إلى الانسحاب من سدة القيادة بشكل فردي لافساح المجال امام الدماء الشابة للتدفق الى سدة القيادة، هذا النضج الفردي تحول الى نضج جماعي انعكس على شكل قرارات في المؤتمر السادس حددت ولايتين فقط للأمين العام، ولمناصب قيادية أخرى لضمان الحركة في دورة حياة الجماعة. 
 

د- سعى الحزب لتمثيل الفئات الاجتماعية داخل المؤسسة وفي صناعة القرار وتحديد المصير، على سيبل المثال حين يختار الحزب اعضاء المؤتمر العام الذي هو اعلى سلطة لا يقتصر التمثيل على الجهاز التنظيمي، بل يشمل المؤسسات التي تعمل فيه وقد يكون فيها افراد ليسوا على مستوى تنظيمي رفيع، مثل مؤسسة الاعلام حيث تحدد نسب تمثيل للمؤسسات، ويتم اختيار اعضاء منها بناء على نظام انتخابي يعتمد العلانية والشفافية ولا يأخذ بالتزكية اطلاقا، نفس الامر ينسحب على الطلاب، والمرأة وما سواهما، هذه الإجراءات تساهم في رفع مستوى التمثيل الجماهيري، وتوسيع قاعدة الرأي، وبالتالي تكون مساحة النقد اوسع.
 

تجربة الاتحاد الإسلامي الكردستاني تستحق الدراسة والوقوف عندها مليا من قبل دارسين متخصصين لتقدم نموذجا عمليا للجماعات الأخرى في العالم

هـ – عدم اعتراض الحزب على ممارسة النقد المؤسسي والشخصي من خلال النقد الداخلي الذي يتم في اللقاءات الحزبية والاجتماعات الموسعة، والمؤتمرات التنظيمية والندوات التثقيفية ومن خلال النقد المعلن عبر اعلام الحزب، فالأمر الذي لا يشكل شئنا داخليا صرفا، يمكن نقده في العلن دون ان يتعرض الناقد للمسائلة او المتابعة.
 

أعتقد أن تجربة الاتحاد الإسلامي الكردستاني لها خصوصية تجعلها فريدة في ممارسة العمل السياسي الاسلامي، نظرا لحجم الرشادة والوعي والاتقان، والاخذ بأسباب العصر ومتطلبات المرحلة الانسانية التي استلزمت ان يتغير الانسان فهما ووعيا مع متغيرات العصر؛ التقنية والتكنلوجية والثقافية، الى جانب مؤثرات العولمة الثقافية التي تبعت ثورة الاتصالات والمعلومات.
 

هذه التجربة تستحق الدراسة والوقوف عندها مليا من قبل دارسين متخصصين لتقدم نموذجا عمليا للجماعات الاخرى في العالم، وهي لم تأخذ حيز الظهور والانتشار لسببين اساسيين:
 

أ- الصغر النسبي للموقع الجغرافي لكردستان الجنوبية (العراق) وعدم وجود صفة لهذا الموقع الجغرافي من حيث الواقع الدولي، الى جانب وجود اشكالات سياسية اقليمية تمنع الانتشار والظهور.

ب- ضعف الحضور الثقافي والإعلامي الخارجي، وعدم القدرة على تسويق الذات ثقافيا، وربما يعود هذا في أحد جوانبه الى ضعف الثقة بالنفس بسبب حداثة التجربة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.