شعار قسم مدونات

غربة روح لا وطن

blogs - rufgee

خوفي هو أن أظلّ باحثا عن وطنٍ أرهقته الحروب، مهجرا بين فيافي الصحراء، مغتربا عن كل شيء.. حتى نفسي.
غربتك عن وطنك تتمثل في هجرك لحضن أمك، حيث صدرها العطوف وقلبها الممتلئ بحبك!! وحبك فقط…هو اغترابك عن مراتع طفولتك، ومرابع صباك.. الحب الأول، الصديق الأول…وبقالتك المفضلة التي يديرها سي محمد الذي لطالما أهداك الحلوى كنوع من الرشوة..لحثك على الشراء من دُكّـانه دون غيره.

ليس الأشخاص وحدهم من تشتاق إليهم وتألم لفراقهم في غربتك.. فتلك الأنفاس من نسمات مكان ولادتك، وذاك المبنى الشاهد على رواحك وغداتك، وهذه المنارة المتوقدة حبّا..كلها تشتاقك..وكلها تؤلمك وحشة كلما طال أمد غربتك.

تلك الذكريات القابعة في رأسك، المُقتحمة لأسوار قلبك دون سابق إنذار، تحمل في كوَامِنها صوراً لأماكن و جمادات لم تكن يوما جمادا؛ إنها أرواح دون جسد..أرواح طاهرة كطهر قاطنيها من أبناء طينتك الملحية .."سوق الحشيش..التوريللي..الكيش..السلماني..حي السلام".

الاغتراب عن الوطن هو ابتلاءُ الرّسل حيثُ ضريبة الإصلاح وديّة الرسالات، دفعوها أثماناً باهظة لقاء محاربة الفساد والجهل

قيمة هذه الجمادات لا تكمن في موادها المصنوعة منها..ليست في أماكن وجودها حتى! قيمتها في التربة الممزوجة برفات أجدادك..المتجذرة فيك دما ولحما…والتي لامست روحك نتيجة اختلاط ذراتها بمائك المخلوق منه ، عجيب أمرها. تلك الأطلال الساكنة فيك، تتسلل إلى قلبك كلما لمحت صورة من ماضٍ جميل، تتقافز روحك فرحاً أمام هديل الذكرى.

ذاك الصحب المشبع تشردا..وتهكما.. المفترشون لناصية الشارع تحت ظل الشجرة..يتسامرون عن ذكريات قضيتموها معا..مشتاقون لوحشة غيابك..فكيف لوحشة قلبك أنت..؟ وأنت الغريب البعيد..

هل يعلم الصّحبُ أنّي بعد فرقتهم
أبيت أرعى نجوم الليل سهرانا
أقضي الزمان ولا أقضي به وطراً
وأقطع الدّهر أشواقاً وأشجانا
ولا قريب إذا أصبحت في حزنٍ
إنّ الغريب حزين حيثما كانا
"ابن معصوم المدني"

حدثتني الشجرة ذات يوم عن قط تحتها بات جوعانا، عن طير أمسى ينتظر خبزك…حدثتني عن عطشها، فلم يروها أحد بعدك.
شجرة الزيتون تلك غرستهـا صحبة أبيك، يداً بيد وفأساً بفأس..فكان أول ما ارتوت به قطراتُ عرقــك المجهدة تعباً… ومنذ ذلك الوقت وهي ظمأى؛ تأبى الانحناء والكسر… في انتظار عودتك.

بجانب الشجرة يكمن نبات النعناع، ذاك الذي تعودت أن تقطفه لأُمك، حيث "عدالة الشاي" والمقروض والغرّيبة، حلوياتٌ لم أتذوق بعدها حلواً وإن كان عسلاً.. فشراب الغربة كالعلقم ترتشفه في كؤوس من الحنين والأشواق.

هذا الفناء كان مسرحاً للخيال ومراحاً للعائلة، كان يشهد ليالي السحر صحبة أخواتك، هناك يطلّ القمر بإضاءة أملٍ، وينشرُ رائحة أحلامٍ كبيرة.. لم يتحقق منها سوى السفر.. سفرٌ لم تكن يوماً تظنّه طويلا.

أوٓ مُخرجــــيّ هم..؟ استفهام ممزوج بالحزن والأسى بادر به سيد الخلق ورقة بن نوفل، ذلك العالم الذي كان يرى بنور قلبه ويعلم يقينا ماهية وصب الأنبياء وأوجاعهم.

في غربتك تعرف روحك، تتعرف على زوايا مخبوءةٍ فيها ومسارب لم تكن لتكتشفها لولا خلوتك بها

الاغتراب عن الوطن هو ابتلاءُ الرّسل، حيثُ ضريبة الإصلاح ودية الرسالات.. دفعوها أثماناً باهظة.. لقاء محاربة الفساد والجهل.

غريب أنت وإن ملكت المال.. غريب وإن حزت الشهرة…غريب وإن أُحطت بكل الناس وعرفت كل الطرائق.. غريبٌ وستظل !! حيث لا يمكن إعادة غرس شجرة عتيقة خارج تربتها.

لولا حاسة الاتجاه الإلٰهي في قلوب المغتربين لتمزقت عليهم جهات الأرض في أنفسهم..ولكنه الأمل..أمل كاذب يعد برجوعهم للوطن…وعودتهم إليه كما تركوه، سراب واهم.. و "لولا السراب لما واصل السير بحثاً عن الماء هذا السحاب .. لولا السراب!! لما كنت حياً "درويش.

تمتدّ بك الأيام وأنت غريب، تستلطفُ الغربة ساعات، وتلعنها دهراً حين ضعفك وعجزك، تناظر عيون أبنائك المغتربين قسرا لغربتك، وتخشى عليهم أن يظل اغترابهم غربة..فلا هم الذين عرفوا الوطن ليتأملوا كذبا سرابك الواهم ويواصلوا المسير، ولاهم الذين تجذروا أصلا في موطنهم الغريب بكل تفاصيله.

في غربتك تعرف روحك، تسامرها بعذاباتك، وآلام ذكرياتك المخضبة شوقاً.. محاولا الحد من أوجاعها؛ تتعرف على زوايا مخبوءةٍ فيها ومسارب لم تكن لتكتشفها لولا خلوتك بها… وياللعجب، فبقدر معرفتك لها ومصاحبتك إيّاها.. أنت تغترب عنها، ذلك أنها ليست هي الروح التي نُفثت بداخلك أول مرة.. هي روحٌ بها لوثة أذى.. روحٌ اغتربت عن طينتها.. فزادها الهجر غموضاً… غربتك عن وطنك هي غربة روح وكفى.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.