شعار قسم مدونات

حكاية رحلة حج

blogs - haj

(1)
الأصغر يطوف حول الأكبر، الإلكترون في الذرة يدور حول النواة، والقمر يدور حول الأرض، والشمس حول المجرة. إلى أن نصل إلى الأكبر مطلقاً وهو الله.. وأنت الآن تطوف حوله ضمن مجموعتك الشمسية رغم أنفك.
 
ألا تطوف حول رجل محنط في الكرملين تعظمه وتقول أفاد البشرية؟!، ألا تعيش في هرولة من ميلادك إلى مماتك ثم بعد موتك يبدأ ابنك بالهرولة من جديد؟!. وهي نفس الرحلة الرمزية من الصفا إلى المروة، من عدم إلى وجود ومن وجود إلى عدم. أليست هذه الحركة البندولية لكل المخلوقات؟!. ألا ترى مناسك الحج تلخيصاً رمزياً عميقاً لكل هذه الأسرار؟! (مصطفى محمود: حوار مع صديقي الملحد – الحج عادة وثنية).

رحلة الحج عودة طبيعية لحقيقتك؛ إنك وحدك تواجه حظوظك من الدنيا، تئنُ وحدك وتشعر بصعقات جسدك أنت فقط، ثم أيضاً تموت وحدك.

(2)
التطلع للمساواة في هذه الحياة الدنيا طموحٌ نسبي؛ لأن إطلاق العنان لخيالك أن تتحقق المساواة بمثالية متقنة جنونٌ لا يليق بعقلك وبواقع الحياة الصغرى.. وحْدَهُ مشهد الحج يلغي النسبية ويلفظها بعيداً هناك حيث حاضنتها الدنيا، وبوصف المشهد النُسُكي صورة مصغّْرة من مشاهد اليوم الآخر، يوم الصدق والعدل.. والمساواة أيضاً.
 

الانعتاق من عالمك التقني الاستهلاكي أمرٌ في غاية الصعوبة.. وحده الحج إلى بيت الله العتيق، يمنحكَ التجردَ من كل ذلك الأذى حين تَصْدُقُ النية، وتنبلجُ أنوارُ اليقين بحب الله وحب لقائه في رحلة هي أجمل رحلات العمر على الإطلاق.

(3)

رحلتك إلى مكة المعمورة، رحلة تشوبها بعض المتاعب. وربما الكدر، بالرغم من "افعل ولا حرج". إنها وادٍ غيرِ ذي زرع وغرابيب سود. إنها ليست سلالة الألوان في جبال الألب. ولا يمر بها نهر العواصم (الدانوب) ليمنح بقواربه السياحية إطلالة سحرية مميزة على معالم فيينا.

خياراتنا هنا ليست دنيوية، صحيح أن من مظاهر الحج أن يشهد الناسُ منافعَ لهم. لكنها ليست الغاية بقدر ما هي وسيلة لإتمام الفريضة. رحلة الحج عودة طبيعية لحقيقتك؛ أنك وحدك تواجه حظوظك من الدنيا، تئنُ وحدك وتشعر بصعقات جسدك أنت فقط. ثم أيضاً تموت وحدك، وفي النهاية "وَكُلُّهُمْ آتْيْهِ يَوْمَ القِيْامَةِ فَرْدْا".

(4)
يبذل المسلمون منذ أزمانٍ بعيدة مُهَجَهُم وأموالهم. وتهفوا قلوبُهم لقصدِ بَكَتِهِم وطَيْبَتِهِم، ملبين ومنقطعين للتبتُّل إلى الله تاركين ورائهم سنواتهم الغابرة في تيهِ الدنيا ونيل مطالبها غِلابا.
 

حُرِمَ بنو أُميّْةَ في الأندلس شرف زيارة البيت الحرام منذُ جدهم الأول عبدالرحمن الداخل. بسبب خشيتهم من أعدائهم العباسيين. فإلى أيِّ مدىً كان بؤس ذلك الحرمان في قلوبهم؟!. هم يعلمون يقيناً أن الحج "لِمَنِ اسْتَطْاع"، لا بأس عليهم حين يعلمون أن الشريعةَ ما جاءت إلا لرفع الحرج عن الناس. لكن أن يكونَ سبب قعودهم عن الحج خوفاً، فتلك المصيبة التي تنكئُ قلوب أحفاد هشام بن عبدالملك الأموي القرشي.
 
رحلات الحج من كل فجٍ عميق، من المشرق ومن المغرب. تجتمع مختلفُ الأجناس والثقافات على صعيد واحد بدافع الإيمان وآداء الحق الإلهي وبحب فطري لمراتع الإسلام الأولى.

رحلات حج الأندلسيين إلى المشرق أكثر من أن تُحصى. وهي مادة خصبة للتاريخ والجغرافيا ووصف المجتمعات وتنوع الثقافات. يكتنف تلك الرحلات صعوبات جَمّْة ليس أقلها لوعة الفراق للأهل والولد والعشيرة. فهذا رحالة المسلمين ابن بطوطة يستهلٌّ تدويناته عن رحلته الشهيرة الممتدة لربع قرنٍ أو يزيد بقوله: " كان خروجي من طنجة مسقط رأسي في يوم الخميس الثاني من شهر الله رجب الفرد عام خمس وعشرين وسبعمائة معتمداً حج بيت الله الحرام وزيارة قبر الرسول عليه أفضل الصلاة والسلام.

منفرداً عن رفيق آنسُ بصحبته، وراكب أكون في جملته، لباعثٍ على النفس شديد العزائم، وشوق إلى تلك المعاهد الشريفة كامنٌ في الحيازم. فحزمت أمري على هجر الأحباب من الإناث والذكور، وفارقت وطني مفارقة الطيور للوكور، وكان والداي بقيد الحياة فتحمّْلتُ لبعدهما وصباً، ولقيت كما لقيا نصباً. وسني يومئذٍ اثنتان وعشرون سنة".

وفي أخطار السفر ووعثائه وكآبات المنظر التي تعبره، يقول الرحالة ابن جبير في وصف موقف عصيب: " وطرأ علينا من مقابلة البر في الليل هولُ عظيم. عَصَمَ الله منه بريح أرسلها في الحين من تلقاء البحر، فأخرجنا عنه، والحمد لله على ذلك".
 

أيها الحجّاج: في غمرة دعاءاتكم وتوباتكم ونوبات بكائكم ندماً على الماضي، لا تنسوا ألم أمتكم، اجعلوا لأمتكم في هذا المشرق البائس منها نصيب

قضى ابن جبير وأصحابه شهراً كاملاً في طريق البحر للوصول إلى الإسكندرية. كانت مغادرتهم لضواحي إشبيليةَ في التاسع والعشرين من شوال ووصولهم إلى الإسكندرية في التاسع والعشرين من ذي القعدة. ولم يبقى على أداء الفريضة سوى اسبوع. لكن الحقيقة أن ابن جبير وأصحابه قد أدوا النسك في العام التالي، لأن أسبوعاً واحداً لا يكفي للوصول إلى مكة من الإسكندرية!.
 

كم من قصص الموت والغرق في البحار والأنهار، والتيه في كثبان الصحراء والموت عطشاً. كل ذلك في سبيل أن تقرَ العينُ برؤية المناسك الشريفة وتهدأ الأنفس بتأدية العبادات الشرعية التي لا تكون في محل آخر غيرها. تستغرقُ رحلةُ الطيران من الدار البيضاء إلى جدة قرابةَ ست ساعات. ولربما رآها الحجاج طويلة!. يغيب الحاج عن أهله وداره وذويه مدةً لا تزيد عن الشهر على الأبعد، ولو استعجل أمره لعاد في غضون أسبوع لا أكثر. لكن يظل السؤال الأهم: ما هي أحوال الروحانية والاستبسال في التبتلِّ بهناسبة كهذه عزيزة؟!.

(5)
يتزود الحاج ببعض الكتيبات الإرشادية ليؤدي المناسك على أفضل وجه. ولكن الزاد الأكثر إلحاحاً وحاجة هو التَفَكُر. حين يتأمل الحاج واقعه المعاش وهذا العالم من حوله، يدرك أن الظلم قد أسدل ستاره الغاشم ليحولَ دون انبعاث ضياء الحق والعدل على ثرى أرضنا. يعلم أن الكذب بضاعة مُزْجاة يستبطنها هذا العصر من عصور البشرية. ويتداركه بصيصُ وعيٍ بأن سراباً قاتلاً يقتل أحلامنا في كل يوم ولا سبيل لمواجهته إلا بالإيمان واليقين والصبر.

في طريق حجكم لهذا العام، براً وبحراً وجواً، تدركون يا ضيوف الرحمن كيف يئنُّ عالمنا العربي والإسلامي تحت وطأة المحن. القتل والتشريد الممنهج وازدواجية المعايير وخذلان الشعوب المقهورة تحت وصاية ما يطلقون عليه "مجتمعاً دولياً). في غمرة دعاءاتكم وتوباتكم ونوبات بكائكم ندماً على الماضي، لا تنسوا ألم أمتكم، اجعلوا لأمتكم في هذا المشرق البائس منها نصيب. من يدري فلعلَّ دعاء أشعث أكبر منكم سبباً ليرفعَ الله عنا ما أصابنا ويهيء لنا من أمرنا رشدا.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.