شعار قسم مدونات

التغريبة السورية

blogs - syria

قد يَخطرُ ببالنا للحظة أنّ عبوديةِ البشر بعضُهم لبعض تكمنُ في استغلالِ الإنسانِ لأخيهِ الإنسان وحسب، وأن ذنوبَ العبوديةِ وآثامها يتحملها الشخصُ المعبود، فهو الذي أجبرَ الطرفَ الذليل – بغيرِ وجهِ حق – على أن يعبده ويقدسه، وهو بذلك يسلبُ منه حرّيته التي منحها الله تعالى له وكرمه بها؛ بينما وزرُ الذنبِ وإن تحمّل خطيئتهُ العظمى المعبود، إلا أنّ جبنَ العابدِ وخوفِه وهلعهِ لتعدُّ ذنوباً لا تقلُّ اجراماً عمّا سبقها.
فالأصل في الإنسان أنّه حرٌ باختياره، كريمٌ في تطلعاته، يجابهُ صعابَ الدنيا ومشاقها للوصولِ لما يطمحُ له، فلهُ واجباتٌ معروفةٌ بِقَدَر، وله حقوقٌ لايسمحُ لبشرٍ مثله أن يتعدى عليها ويسلبهُ إياها، وإن اضطرّته الظروف انتزعَ تلك الحقوق انتزاعًا.

لا يمكنُ للعربي مهما بذلَ أن يجاري التقدم الحضاري ويعيش كما يعيش بنوُ البشرِ في تلك البقاع، لأنَ إنساننا العربي متخلفٌ في ذاته، ولا يعدُّ أكثرَ من عبءٍ على المسيرةِ الحضاريّةِ الإنسانية.

كلُ هذا نعرفه وأكثر، وندرك بعد معناه ومغزاه؛ إلا أنّ فكراً قد زُرعَ فينا – عن قصد – على مدى مائةِ عامٍ مضت، كان أثرهُ عميقًا في مجتمعاتنا وغائرًا في عمقِ تفكير شبابنا؛ فترى هزيمتهم النفسية تَقطُر من بين عيونهم المسدلةِ للأرض، كيف لا، ونظامُ الجبرِ الظالم ما انفك يدسّ في رؤوسهم مذ وَعُوا هذهِ الحياة أنهم متخلّفون، متفككون، بعيدون عن خطِ الحضارةِ الإنسانية، أو أنهم والحضارة خطانِ متوازيان لايمكن لهما أن يجتمعا.

 فتلك مدراسهم وذاك إعلامهم الذي أبقانا حبيسي قوقعةِ الحاكم وحكمتهِ اللامتناهية، فهو يعلمُ مصلحتنا ويعلم كيف يوصلنا لها، وماعلينا إلا السمع والطاعة العمياء؛ عندها فقط تكن أنت الحكيمَ الرشيد، وأيّ خروجٍ عن هذا الناموس تتبعه حلقاتٌ متعاقبة من السجنِ والتعذيبِ والتقتيل والتهجير؛ تبدأُ بمن فكّر بكسر قيود التفكير وتحطيمِ أغلالها ولا تنتهي بأغلبِ أصحابهِ ومعارفهِ وذويه.
 

بعد هذا كله لانستغربُ من شعبٍ مظلومٍ أتعبته تلك الأصفاد الثقيلة، وقد رأى فسحةً للحريةِ تتخايل مما وراءِ البحار أمامَ عينيه، وشاهد ذلك الباب الموصدَ وهو يكسرُ مرةً واحدة ويفتحُ على العالم بأسره؛ لانستغربُ منه أن يهاجرَ أفواجاً أفواجاً، رجالاً وركباناً، مجتازاً البراري والقفار وقاطعاً البحارَ والأنهار، ليصلَ لأرض الأحلامِ أوربا.

 فتبعاً لنظريةِ حاكمهِ الفكرية لايمكنُ لهذا الإنسان العربي مهما بذلَ من جهدٍ وطاقة أن يجاري ذلك التقدم الحضاري العظيم، ويعيش كما يعيش بنوُ البشرِ في تلك البقاع. فالفجوةُ بينهما واسعة، لا لأنَ الإنسانَ الغربي متقدمٌ فكرياً وحضارياً، بل لأنَ إنساننا العربي متخلفٌ في ذاته، ولا يعدُّ أكثرَ من عبءٍ على المسيرةِ الحضاريّةِ الإنسانية.

ثمّ يصلُ إنساننا العربي، المحطمُ فكرياً ونفسياً، بثمنٍ باهضٍ لأرضِ الحضاراتِ المزعومة، ليجدَ مجتمعاتٍ منحلةٍ متفككة، تحكمها ثلةٌ من السياسيين القذرين، يسيّرونها كيفما شاؤوا. وترى آيةَ الأسرِ واحدة، فإن كان المستبدّ العربيُّ قد اختارَ القوةَ المفرطة في القمع، فهؤلاء اختاروا سياسةَ الاستغباءِ في السيطرة على بني البشر. وكلاهما سيان.

 ما يهمنا هو إنسانُنا المهاجرُ الذي دفعَ كلّ مايملك وأكثر، وربما فقد عزيزًا أو أكثر في رحلته القاسية ، وهو يقطع الفيافي والبحار والقفار، ليصلَ لمبتغاه. ثم يجلسُ بعد هذا كله ذليلاً بين ظهراني قوم لا يعرفهم، ولا تربطه بهم أيّة رابطة. يُسَيّرُ بأنظمتهم وقوانينهم، يتعلمُ لغتهم وأحكامهم على مدى سنينَ من عمره، لا يحصلُ خلالها إلا على قوتِ يومه. ليدخلَ بعدها في الأسرِ من جديد ويدخل قفصَ العبودية من جديد.

فإذا كان الحاكم العربي متطفلًا على مجتمعاتنا المسلمة ومستعمرها في أرضها، فيقينهُ راسخٌ بأنهُ زائلٌ منها لامحالة مهما طالت أيامُ حكمه و بلغت سطوته وقوته؛ وملياراتُ الأموالِ المنهوبةِ في بنوك الغرب تشهدُ على ذلك، إلا أنّ الحاكمَ الغربي يعملُ في أرضه وبين شعبه، فالمهاجرون مهما كثرَ عددهم فهم أقليّةٌ تتلاشى قوتها في قارةٍ عجوزٍ تكدّست بالبشر.

 وكأنّي أنظر إليهم بعد سنين قلائل وقد كبّلتهم قوانينُ الغربِ وأنظمته، لدرجةٍ تمنعهم من ترك هذه الأرض، إن أرادوا. فتراهم وهم يُخدّمُون عجائزَ هذه القارة، ويعملون كعبيدِ القرونِ الوسطى، الذين يجهدونَ طيلة النهار ليجنيَ أسيادهم الحصاد والمال. تماماً كما كان الحالُ مع الأفارقةِ الذين ساقهم الأمريكان والاسبان من بلادهم بالأغلال، ليبنوا لهم قوةً اقتصاديةً وعسكريةً سيطروا بها على العالم لقرون.

نحن نساق كالعبيدِ لأرضهم، لا بالأغلالِ، وإنما بالوهم الذي يلفّ عقولنا.. فيسقطُ منا في البحارِ من يسقط، ويهانُ من يهان، ولايصلُ إلا من تعدى الاختبار الأول لقبولِ العبودية

فكما فعل هؤلاء بأبناء القارة السوداء سيُفعل بأبنائنا، والفرقُ هنا أن عبيد أفريقيا سيقوا كما تساقُ البهائم عنوةً وقهراً، بسفنٍ لا تصلحُ للدواب، وماتَ منهم على الطريق مجبراً من مات، وما كان يصلُ منهم إلا النصفُ أو أقل، وكانت ذات المحيطات قبورهم. فكلّما ماتَ منهم من لم يقوَ على السفر رماهُ (المتحضرون) في أعماقها.

التاريخُ يرسمُ خطاه من جديد، وإن اختلفت الأسبابُ والطرق، فنحن نساقُ أيضاً كالعبيدِ لأرضهم، لا بالأغلالِ، وإنما بالوهم الذي يلفّ عقولنا. ويسقطُ منا في البحارِ من يسقط ، ويهانُ من يهان، ولايصلُ إلا من تعدى الاختبار الأول لقبولِ العبودية لتبدأ بعدها مرحلةُ السخرةِ والعمل.

ولعلي هنا لا أنسى أن أذكر أنّ ما صُبَّ على رأسِ هذا الشعبِ المعذب، من أصنافِ الذُلِ والقهرِ والقتلِ والتنكيل، شيء لا يطاق.. ولكن يبقى الخيارُ لك؛ فإما أن تموتَ واقفاً كما تموت الأشجار، فتسعدُ إلى أبد الآبدين، أو أن تنجَرَّ وراءَ الأسرِ الفكري، فتتبعه مظنّةَ النجاة، فتكون الخسارةُ العظمى؛ والتي تبداُ ببراءةِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم منك إن مِتَّ بينهم، مروراً بتركِ أرضِ الشامِ والرباط، فسطاطِ المسلمين وخِيرةِ اللهِ من أرضه.. ولاتنتهي بجلساتِ التنصيرِ وحفلاتِ الغناءِ والخمورِ في أوربا.

ولعلَّ ثمناً أبهظ من ذلك سيدفعه جيلٌ ثانٍ أو ثالث، جيلٌ سيتربى على مبادئِ النصرانيةِ وقواعدِها.. تراه عمّا قريب يتبرأُ منكَ ومن وطنكِ ومن دينك، ويعتبرُ هذا الوطنَ الجديد هو وطنه، وهذه الأرض هي أرضه، وتلكمُ والله الخسارة. فاعتبروا يا أُولي الأبصار..

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.